34. نظرة إلى مسألة «فدك»

اعلم أن «فَدَكَ» قريةٌ صغيرةٌ في الحجاز تَبْعُدُ عن المدينة حوالي أربعة كيلومترات تقريباً وقد سلَّمها أهلُها للمسلمين صُلْحاً. يُعتَبَر مثل هذا العقار أو المكان في حكم الفيء أي المال الخالص للدولة، ويكون تحت تصرف رئيس المسلمين لينفقها في مصالحهم العامة. وقد وقع ذلك الصلح في السنة السابعة للهجرة بعد فتح خيبر. كان في تلك القرية عين ماء وأشجار نخيلٍ وكان    رسول الله o ينفق ما يأتي منها على الأفراد المستحقين وابن السبيل و مصالح المسلمين العامة. كما قال تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر/7].

وفعل أبو بكر بفدك زَمَنَ خلافته مثلما فعل رسول الله o، فلما آلت الخلافة إلى عمر جعل عليَّ بن أبي طالب وعمَّه العباس ناظرين ومتوليين لفدك كي يقوما بإنفاق منافعها طبقاً للمصارف المذكورة في القرآن. وقدَّر الله أن يقع اختلاف بين عليٍّ والعباس بشأن التصرف في «فدك» فاشتكيا إلى الخليفة، لكنه لم يفصل بينهما بل أوكل لهما أن يحلا خلافهما بأنفسهما.  ولو كان لـ«فدك» مالكٌ حقيقيٌّ غيرُ راضٍ بتصرف الآخرين فيها، لما جاز إعطاء منافعها للآخرين، ولما قَبِلَ عليٌّ أبداً أن يتولى إدارة مثل هذا المُلْك المغصوب، ولما تعاون أبداً على الإثم.

ثم آلَ تولي أمر فدك إلى مروان [بن الحكم] و إلى بني مروان حتى زمن «عُمَر بن عبد العزيز» الذي عمل فيها زمن خلافته بعمل الخلفاء الراشدين. في سنة 210 هـ ، أمر الخليفة العباسي المأمون أن يُعهد بفدك إلى أولاد فاطمة عليها السلام، وبعد حكمه هذا سلَّموا «فدك» ليحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين - عليهم السلام - و محمّد بن عبد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين - عليهم السلام -، وبقيت بأيديهما مدةً طويلةً إلى أن حصل اختلاف بين أولادهما بشأن إدارتها، وكان ذلك زمن المتوكّل العباسي،  فأمر أن تُردَّ «فدك» إلى الدولة وأن يُدار شأنها على النحو الذي كان يتم من قبل، أي تحت إشراف سلطان المسلمين، وأن توزَّع منافعها على المستحقين، وأن لا يتولى أمرها أحد آخر لا من الفاطميين [أي من ذرية فاطمة] ولا من غيرهم.

يجب أن نعلم أن فرقة الإمامية تدّعي أن أبا بكر منع حضرة فاطمة عليها السلام من «فدك» التي كانت جزءاً من ميراثها، وأنه استند في منعها إلى قول رسول الله o: "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". يدّعي الشيعة أن هذه الرواية تخالف القرآن!! لأن الله تعالى يقول: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء/11]، وأن هذه الآية عامّة تشمل بعمومها رسول‌اللهo أيضاً. كما يقول تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل/16]، ويقول على لسان زكريا (ع): ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم/5 -6]، والإرث عام أيضاً يشمل كل شيء.

 

و هذا الادعاء ليس صحيحاً بالطبع، لما يلي:

أولاً: إن حديث "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" لم يروِه أهل السنة فقط بل رُوِيَ في كتب الشيعة أيضاً.

ثانياً: لم يدَّعِ أبو بكر أن «فدك» ملكه، ولم يستفِد منها استفادة شخصية، بل قال: إنّ ما تركه رسول الله o صدقة للمستحقين، مثل الأراضي الخالصة التي تتعلق بشخص الحاكم والرئيس ولا تكون ملكاً له بل يجب إنفاق منافعها تحت إشرافه في مصالح الأمة.

ثالثاً: لقد حَرَمَ أبو بكر زوجاتِ رسولِ اللهِ o ومنهنَّ ابنتُهُ عائشةُ، وحفصةُ ابنةُ رفيقه عُمَرَ وسائر زوجات النبي o اللواتي لم يكن بينه وبينهنّ أي عداوة، من إرثهم من «فَدَك» أيضاً.  يَتَـبَيَّنُ إذاً أنه لم يكن في الأمر نيّة سيئة بل كانت «فَدَك» خالصةً وحقاً لجميع المسلمين ولم يكن من الجائز أن تورَث. ولم يعترض صحابة رسول الله o بما في ذلك عليٌّ u وأبو ذر و..... ولم يقولا شيئاً في هذا الصدد. والأهم من ذلك أنه لما تصدّى أمير المؤمنين علي u لأمر الخلافة لم يقم بتقسيم «فدك» ولم يغيّر المصارف التي كانت منافعُ «فدك» تُنفَق فيها ولم ينقُلْها إلى ملكية ورثة حضرة الزهراء عليها السلام، في حين أنّه يجب على الحاكم في زمن بسط اليد أن يعيد الحق إلى نصابه ويردّ المال المُصادَر بغير حق إلى صاحبه أو ورثته.

رابعاً: إن الشيعة متناقضون في هذه القضية، فهم يقولون من جهة إن «فدك» وصلت إلى حضرة فاطمة عن طريق الميراث، ومن الجهة الأخرى يقولون إن حضرة فاطمة قالت لأبي بكر إن أباها وهب لها «فدك»! وينبغي أن نسأل إن كان رسول الله o قد وهب فاطمة (ع) «فدك» فإن «فدك» قد خرجت من أموال النبيِّ o، ولم يعد يشملها عنوان الإرث، وإن قالوا إنها إرثٌ، كان ادِّعاء هبة «فدك» باطلاً. وبالطبع إذا كانت «فدك» إرثاً فإن نساء النبيِّ سيكون لهنَّ سهم أيضاً، فلماذا لم يعترض نساءُ النبيِّ ولم يطالِبْنَ بنصيبهن من الميراث منها؟

كذلك لا يمكننا أن نقول إن رسول الله o قام بهذه الهبة في مرض موته، لأن شأن النبيo أجل وأرفع من أن يوصي لأحد ورثته بأكثر من نصيبه من الميراث، ولا خلاف في أن الهبة غير المقبوضة تصبح باطلة وبلا أثر بوفاة الواهب.

أما إن قلنا إن هذه الهبة قد تمت قبل مرض الوفاة، ففي هذه الصورة كان يجب أن تستقر بيد حضرة الزهراء، ولكان الآخرون قد اطلعوا على ذلك! في حين أننا لا نلاحظ في التاريخ القطعي أي أثر لمعرفة الآخرين بهذا الأمر واعتراضهم بشأنه.

خامساً: يدَّعون أنه لما رفض أبو بكر تسليم «فدك» إلى حضرة الزهراء (ع) أقسمت أن لا تكلِّمَهُ أبداً حتى تلقى أباها فتشتكي له!

لكن هذا الكلام لا يليق بالمقام السامي والرفيع لحضرة فاطمة (ع) لأنها كانت تعلم أكثر من أي شخص آخر أن بث الشكوى لا يكون إلا لِـلَّهِ، لاسيما في عالم ما وراء الدنيا حيث الله وحده مالك يوم الدين والمرجع في جميع النزاعات والاختلافات والشكايات!  لهذا لا يمكن أن تقول بنت النبي الأكرم o مثل هذا الكلام. وهذا الأمر في حد ذاته دليل على أن تلك الادعاءات ليست صحيحة. نقرأ في القرآن الكريم أن يعقوب u قال حتى في هذه الدنيا: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ [يوسف/86]. ونقرأ أيضاً في دعاء موسى u : «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَان‏ وَبِكَ الْمُسْتَغَاث وَعَلَيْكَ التُّكْلَان»‏.

سادساً: لقد تَرَبَّتْ حضرة فاطمة -عليها السلام- في حضن أبٍ كانت تمضي في بيته أشهر دون أن يوقد فيه نار لطبخ الطعام، ولما توفي توفي ودرعه مرهونة لدى شخص أقرضه بضعة دراهم.  كما كانت حضرة الزهراء ابنة أم قدَّمت كل ثروتها إلى زوجها في سبيل خدمة الإسلام. وكانت حضرة الزهراء زوجة  رجل هو عليٌّ u الذي كان يحفر الآبار ويجعلها وقفاً للمسلمين؟ لقد رُبِّيَتْ حضرة فاطمة الزهراء تربيةً من معالهما أنها لما جاءت إلى أبيها تطلب منه خادمةً تعاونُها في أعمال المنزل، لم يقبل أبوها الكريم أن يعطيها ذلك وعلَّمَها بدلاً من ذلك أن تقرأ التسبيحات المعروفة بتسبيحات الزهراء، كما جاء ذلك في الحديث المعروف في كتب أهل السنة وكتب الشيعة أيضاً ومن جملتها كتاب «من لا يحضره الفقيه».

وكان النبيُّ o لا يرضى أن تَهْتَمَّ ابنَتُهُ أدنى اهتمام بزينة الدنيا وَحُلِيِّهَا، ولما رأى أن ابنته أسدلت ستارةً مُلَوَّنَةً ووضعت على جيدها طوقاً وفي رجل أولادها خلاخيلَ أعرض عنها إلى أن نزعت الزهراء كل ذلك وأعطته إلى الحسنين -عليهما السلام- كي يقدماه إلى رسول الله o، وَقَبِلَ النبيُّ ذلك وأنفقها في سبيل الله. استناداً إلى شخصية فاطمة (ع) هذه، حتى لو قبلنا ادعاء من يقول إن «فدك» كانت مُلكاً لها - رغم عدم الدليل على ذلك- فهل يمكننا أن نُصدِّق أن مثل هذه الشخصية الرفيعة الزاهدة تسمع أبا بكر يقول إنه ينبغي إنفاق منافع «فدك» في مصالح المسلمين العامة، فتغضب من ذلك ولا تسمح به ولا ترحب بكلام أبي بكر؟!

أما بشأن  الآيات التي تم الاستناد إليها ‏على نحو خاطئ، فينبغي أن ننتبه إلى النقاط التالية: أولاً: آية الميراث باتفاق العلماء لم تبقَ على عمومها بل خُصِّصَتْ في عدة موارد كتخصيصها بعدم وراثة الابن الكافر، أو قاتل الأب و.....

ثانياً: لفظ «الإرث» اسم جنس وله أنواع: مثل إرث المال وإرث الملك والسلطان وإرث النبوة وغير ذلك. وجاءت كلمة «الإرث» أيضاً بمعاني مختلفة في القرآن الكريم، منها مثلاً الإرث بمعنى إرث العلم والكتاب وذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا﴾ [فاطر/32], أو جاءت بمعنى وراثة الجَنـَّة: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف/72]، أو بمعنى وراثة الأرض والمال: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [الأحزاب/27]، واستُعمِلَت الكلمة في المعنى الأخير في الآيتين 128 و 137 من سورة الأعراف المباركة أيضاً.

ثالثاً: الآيتان الثانية والثالثة اللتان استشهدوا بهما تخالفان – في الواقع – ادّعاءهم وتؤيدان وجهة نظرنا، لأنه من الواضح بجلاء أن الإرث في الآية 16 من سورة النمل لا يُراد منه الإرث العرفيّ والعادي، لأن حضرة داود (ع) كان له أولاد آخرون غير حضرة سليمان (ع) وهم يرثون من أبيهم كما يرث سليمان. ومن الواضح أن الأولاد يرثون من أبيهم إذا كان له مال بغض النظر عن كونهم محسنين أم مسيئين، فلم يكن سليمان متميّزاً بالإرث من أبيه بالمعنى المعروف للإرث، وَمِنْ ثَمَّ فَذِكْرُ وراثته لأبيه لن يكون فيه أي معنى أو فائدة إذا قُصِد منه مجرّد وراثة ماله كما لن يتضمّن أي مدح، مع أن الآية جاءت في مقام مدح سليمان (ع) وبيان فضله والثناء عليه، فالإرث الذي تميّز به سليمان (ع) عن الآخرين واستحقَّ لأجله الذِّكْر هو «إرث النبوّة» لا إرث المال لأن إرث المال أمر عام يشترك فيه جميع الناس، وبعيد عن  شأن القرآن أن يذكر مثل هذه الأمور. إذن تلاحظون أنه لا يمكن إثبات ادّعاء علمائنا من هذه الآية.

أما الآيتان الخامسة والسادسة من سورة مريم فهما أيضاً لا تؤيدان الادّعاء الذي ذُكِر أعلاه لأنهما تقولان: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم/6] مع أنّ حضرة يحيى (ع) لا يرث المال من آل يعقوب، بل أموال آل يعقوب يرثها أولادهم وأقرباؤهم. كما لم يكن لدى والد يحيى (ع) – يعني زكريا (ع)- أموالٌ حتى يدعوَ اللهَ أن يرزقه وارثاً كي لا يبقى ماله دون وارث!! لأن زكريا (ع) كان نجّاراً زاهداً ولم يدّخر أموالاً، هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من أن وراثة المال أمر عاديّ ومُتَعارَف عليه ويشترك فيه جميع الناس فليس فيه أي مدح أو خصوصية أو امتياز لصاحبه. فتلاحظون أيضاً أنّ المقصود من الإرث في هذه الآية أيضاً «إرث النبوة»([1]) لا إرث المال.



([1]) من المفيد أن نضيف  - دعماً لرأي المؤلف - أن الوراثة في الآيات المذكورة استُخْدِمَت بالمعنى المجازي لا الحقيقي، أي جاءت بمعنى انتقال الأمر أو الشيء من شخص لآخر، وعليه فلا مجال للاعتراض بأن البنوة  لا تورَث. (المُتَرْجِمُ)