59. تأمُّلٌ في مسألة التقيَّة

كما تلاحظون تستند روايات هذا الباب إلى مسألة «التَّقِيَّة» وترتبط بها ارتباطاً مباشراً. لهذا أودُّ أن أعالج هذه المسألة هنا قبل أن ننتقل إلى دراسة أحاديث الباب التالي. وسأذكر رأي عدة من علماء الشيعة حول «التَّقِيَّة» كي يدرك القُرَّاء بطلان أمثال هذه الأحاديث التي مرَّت معنا. ولقد ذكرتُ في مقدمة كتاب «شاهراه اتحاد» [طريق الاتحاد] أموراً مختصرة حول مسألة «التَّقِيَّة»، ولكنني سآتي هنا بكلام علماء آخرين حول هذه المسألة:

يقول «الملا صدرا» الذي يثني عليه علماء زماننا ثناءً كبيراً ويُبَجِّلونه، ما نصه:

"لا تَقِيَّةَ فيما يرجع بفسادٍ في بيضة الشريعة وهدمٍ لحصن الإسلام، ولا في عظائم الأمور الدينية ولاسيما للمشهورين في العلم المُقْتَدَى بهم في الدين، وكذلك لا تقية في الدماء المحقونة..... إنما التقية فيما الخَطْبُ فيه سهلٌ من الأعمال والأقوال لمن خاف على نفسه أو على أهله وأصحابه"([1]).

بل حتى شخصٌ خرافيٌّ ومتعصِّبٌ وطائفيٌّ مُفَرِّقٌ بين المسلمين مثل المجلسي يقول:

"و بالجملة يظهر منه أن التَّقِيَّة إنما تكون لدفع ضرر لا لجلب نفع بأن يكون السوء بمعنى الضرر أو الظاهر بمعنى الغالب، ويشترط فيه عدم التأدّي إلى الفساد في الدين كقتل نبيٍّ أو إمام أو اضمحلال الدين بالكليَّة، كما أن الحسين - صلوات الله عليه - لم يتَّقِ، للعلم بأن تقيَّتَهُ تؤدي إلى بطلان الدين بالكلية. فالتقيَّةُ إنما تكون فيما لم يصر تقيَّته سبباً لفساد الدين وبطلانه كما أن تقيتنا في غسل الرجلين أو بعض أحكام الصلاة وغيرها لا تصير سبباً لخفاء هذا الحكم وذهابه من بين المسلمين"([2]).

وذكر العالم القدير آية الله العظمى السيد محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني كلاماً مفيداً حول «التَّقِيَّة» سننقل هنا ما ذكره في هذا الموضوع في كتابه «نماز جمعه يا قيام توحيدي هفته» [صلاة الجمعة أو نهضة الأسبوع التوحيدية] بشيء من التصرف اليسير، كما سنُتَرْجِم بعضَ ما ذكره في المجلد الثالث من كتاب «خورشيد معرفت» [أي شمس المعرفة]. يقول:

"إن حمل الحديث على «التَّقِيَّة» لا مورد له لسببين:

الأول: أن كثيراً من المسائل، مختلفٌ فيها بين العامة أنفسهم، وَمِنْ ثَمَّ فقول الحق لا خطر فيه حتى يلجأ الإمام إلى «التَّقِيَّة» ..... إضافةً إلى أن مثل هذه المسائل الفقهية لم تكن مسائل سياسية يهتم لها الخلفاء الأمويون والعباسيون لأنَّها لم تكن تتعلق برئاستهم وحكمهم.

الثاني: بمقتضى أمر كتاب الله، «التَّقِيَّة» تكون في الموضوعات لا في الأحكام الشرعية، فكما أن النبيَّ لا يستطيع أن يمارس «التَّقِيَّة»  في بيان الأحكام الإلهية، كذلك لا يمكن للإمام والفقيه أن يتَّقي في هذا الأمر، لأن ذلك سيؤدي إلى تحريف أحكام الله أو بقائها في زوايا الجهل والخفاء. نعم يجوز للإمام أن يسكت عن بيان الحكم ولكن لا يجوز له أن ينطق بما يخالف الحق لأن قادة دين الله كانوا يقدمون النفس والنفيس في سبيل بيان الحق وهداية الخلق.

لقد ابتدأ الأخباريون هذه النغمة منذ زمن الشيخ الطوسي فما بعده، واتَّبعهم في ذلك كثيرٌ من الأصوليين. قال الأخباريون: يجوز للإمام - في مقام التقية - أن يكتم الحكم الواقعي للدين، ويفتيَ بما يخالفه!! واستدلوا على كلامهم هذا بقول الإمام: "نحن نلقي الخلاف بينكم كي لا يؤخذ برقابكم"، فتصوروا أن مرادَ الإمام أننا نقول لكل فرد أو جماعة نوعاً من الكلام في بياننا لأحكام الله يعارض بعضه الآخر ويناقضه، كي تسمعوا منا أنتم الشيعة أحكاماً مختلفة ويفهم كل منكم خلاف ما يفهمه الآخر ويعتقد به كي لا يعلم العدوّ أنكم أتباع إمام واحد فيلحق بكم الخطر!  هذا في حين أنه لم يكن هذا هو مراد الإمام وإلا للزم عن ذلك أن يصبح المرشد والزعيم الهادي مُضِلاً، وهذا محال [ولا ينسجم مع مقام هداية الخلق].

إن الإمام لم يقل إننا سنلقي بينكم الاختلاف ببياننا لأحكام الله كي نحافظ على أرواحكم! وليس مراده أننا سنوجد الاختلاف في مسائل الدين على نحوٍ يبقى الحق فيه مكتوماً ومجهولاً. إن غرض الإمام من الكلام المذكور أعلاه أننا نأمركم أنتم الشيعة (أي أولئك الذين كانوا يعيشون في عصر الإمام) أن لا تظهروا بين الناس أنكم متحدون وكلمتكم واحدة ولا تتشكلوا في جماعة موحدة ولا تُظهروا اتفاقكم في الاجتماعات وأن لكم هدفاً واحداً، كي لا يستيقظ العدوُّ ويتنبَّه إلى خطركم أو يظنَّ أنكم شكَّلْتُم حِزْباً وتقومون بتوسعته يوماً بعد يوم، وأنكم تستعدون لمناهضة حكومة الظلم والاستبداد ومحاربة الطواغيت فيتعرَّف عليكم ويأخذكم ويقتلكم أو يَزُجَّ بكم في السجن، ويحول دون تقدُّم الحق والعدل وهدم بنيان الجور والطغيان. وإلا فكيف يمكن القول إن مراد الإمام من الحديث المذكور أعلاه أننا -بهدف حفظ أرواحكم [وإبعاد الخطر عن أنفسنا وأصحابنا] - نفتي بفتاوى مختلفة ومتعارضة في أحكام آخر الأديان!! لأنه من الواجب والضروري حفظ أحكام الدين إلى يوم القيامة [ كي تتم الحجة على الخلق ولا يحرم الناس من معرفة طريق السعادة] فالأئمة أيضاً من أكبر حافظي دين الله وأنصاره، فإن لم يُبيِّن الإمامُ الحقَّ بل أفتى بغير الحق، ذهبت صحة الدين وسلامته أدراج الرياح، وهل الدين سوى الأحكام؟ فإن قام حُفَّاظُ الدين والمدافعون عنه بالإفتاء بفتاوى مخالفة للشريعة حتى بين أصحابهم ولم يذكروا في ثنايا كلامهم قرينة تمنع من الاشتباه والخطأ، فالآن وقد خُتِمَت النبوة، من الذي يمكنه أن يبين للناس الحق الصريح؟ [ويمنع اختلاف الأمة؟].

هذه العقيدة [الخاطئة] بأن الإمام يمارس «التَّقِيَّة» في بيان حكم الله أصبحت بحدّ ذاتها قاعدةً وأصلاً يُرجَع إليه في مقام تعارض الروايات مع بعضها [دون أي دليل متقن على هذا الأصل]، فإذا وُجِدَ التعارض بين حديثين وأكثر حُمِلَ أحد تلك الأحاديث أو أكثر على «التَّقِيَّة»، وأدَّت هذه الطريقة إلى إضعاف الانتباه إلى  الأصل الذي بيَّنه رسول الله o وأئمة الهدى -صلوات الله وسلامه عليهم- لمعرفة الحديث الصحيح  [من غير الصحيح]. وذلك الأصل هو عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسول الله o القطعية واليقينية([3])، وأن يتعرفوا بواسطة هذين الأمرين على صحة الحديث وسقمه، وَمِنْ ثَمَّ تبقى كثير من الأحكام إما مبهمة أو محرَّفة، في حين أن «التَّقِيَّة» في بيان الأحكام لا تجوز على النبيِّ بالاتفاق وكذلك لا تُعْقَلُ من الإمام لأن قوله سندٌ وحجَّةٌ على كافة الأنام إلى يوم القيامة.

أما حمل بعض الأخبار على التقية فقد شاع منذ زمن الشيخ الطوسي (رحمه الله) الذي أراد في كتابه «الاستبصار» أن يجمع بين الأحاديث المتعارضة بهذه الطريقة. وكثير من طرق الجمع التي اعتمدها الشيخ لا دليل عليها من الأخبار وبعضها يؤدي إلى طرح كلا الحديثين. وقد اتَّبع كثير من العلماء الذين جاؤوا بعد الشيخ الطوسي طريقته هذه في حمل بعض الأخبار على «التَّقِيَّة»، وهذا أمر مخالف لمصلحة الدين ويتعارض مع الفائدة من وجود الإمام وفيه نقض للغرض من ضرورة نصب الإمام لأجل هداية الأمة وإرشادها! وقد أوضح النبيُّ الأكرم o لأجل تثبيت تلك الغاية واجب الإمام ووظيفته بشكل صريح حين قال: "يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه، يَنْفُون عَنْه تَحْرِيف الغالين، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْن ، وَتَأْوِيل الجاهِلِيْن»([4]).

وروى «أبو البختري» أيضاً عن الإمام الصادق u أنه قال ضمن حديث: "فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولًا يَنْفونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِين"([5]). فإذا مارس  الأئمَّة عليهم السلام «التَّقِيَّة» في بيان حكم الشرع فكتموا الحق أو أفتوا بخلافه للزم من ذلك تركهم لوظيفتهم الحتمية والأساسية، وسوقهم الأمة نحو طريق الضلال!

لا يوجد في الكتاب والسنة أي دليل على أنه يجوز لإمام المسلمين ومرشدهم أن يمارس «التَّقِيَّة» فيفتي بأحكام الله على نحو يخالف الحق والواقع، كي يحفظ نفسه وأصحابه من الخطر! نعم، توجد «التَّقِيَّة» في الدين، بحكم الكتاب والسنة والعقل، ولكنها في الموضوعات وليست في بيان الأحكام.

هل وظيفة الرسول الأكرم o شيء سوى إبلاغ دين الله للبشر والسعي الشديد والجِدّ الأكيد في تحقيق هذا الهدف السامي والمقصد العالي؟ هل وصل عترته الأطهار إلى أعلى مدارج الكمال إلا بسبب جهادهم ونشاطهم الذي لا يعرف الكلل في اتِّبَاع نهجِ رسول الله o وتطبيق برامجه في تبليغ ما جاء به النبيُّ؟ أليسوا في صدر حُفَّاظ الشريعة الحقيقيين؟ ألم يكونوا في مقدمة الرواد في بذل الروح لنصرة حقائق القرآن ورفع كلمة الله وفي الصف المقدم لمن وصفهم الله بقوله:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ [البقرة/207] ؟

إن القرآن لا يجيز للمجاهد أن يفر من أمام العدو في ميدان المعركة ليحافظ على روحه ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ 15 وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾  [الأنفال/15-16]، ويقول أيضاً: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ [الأنفال/45]. [وكيف يمكن للدين الذي كان نبيُّهُ لا يبتعد عن صفوف العدو ليحفظ روحه بل على العكس يكون أقرب الناس إلى العدو، أن يقول للناس: امتنعوا عن قول حقائق الشرع حفاظاً على أرواحكم؟!]([6])، هذا في حين أن الغرض من الجهاد ليس سوى دفع شر الكفار وأعداء الدين، الذين هم في الحقيقة أعداء البشرية، وإعلاء كلمة الله ونشر أحكام الله، والواجب الذي أوكل إلى الأئمَّة عليهم السلام أعلى وأهم بعدة درجات من الجهاد بالسيف والسنان. وعلى هذا، أليس مجرد احتمال أن يقوم الأئمَّة عليهم السلام بإضعاف بنيان الإسلام ليحفظوا أنفسهم تخيُّلٌ خاطئ وتصوُّرٌ باطلٌ لا أكثر؟!". (انتهى كلام السيد الغروي من كتابه «نماز جمعه يا قيام توحيدي هفته»)

ويقول السيد الغروي في كتابه «خورشيد معرفت»:

"إلا أن قول [الفقهاء] بوجوب حمل تلك الأخبار على التقية أيضاً لا دليل عليه، أما استدلالهم بموافقتها للعامة فغير مُجْدٍ [ولا يحل المشكلة]، لأن صرف موافقتها لهم لا يكون دليلاً على كون الحديث الموافق صادراً على وجه «التَّقِيَّة»، كيف، وأحكام الدين مشتركة بين المسلمين، ولا تقول الشيعة في مسألة قولاً إلا وافقها واحدٌ من فقهاء العامة أو أكثر غالباً، انظر إلى «تذكرة الفقهاء» للعلامة الحلي (ره) يتبين لك الأمر.

وأما ما تفردت به الشيعة الإمامية ولم يوافقها أحد من العامة، فقد كان في عهد الأئمة إلى زماننا [في الأصول والفروع]، أظهر من الشمس في رابعة النهار، لجميع أولى الأبصار، كعينية صفات الباري تعالى مع ذاته، ومسألة الجبر والتفويض («لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْن»؛ فلا جَبْرَ، خلافاً للأشاعرة، ولا تفويضَ خلافاً للمعتزلة)، ومسألة الحسن والقبح العقليين وغير ذلك، وكحِلِّيَةِ المُتْعَة، وترتيب الوضوء وأسلوبه، وعدم تحقق الثلاث بقول المُطلِّق هي طالق ثلاثاً، ومسئلتي العول والتعصيب في الإرث، ووجوب طواف النساء، وكون حي على خير العمل جزء من الأذان والإقامة، وكون «الصلاة خير من النوم» في أذان الصبح بدعة، وحرمة القياس والاستحسان في الأحكام ووجوب ابتنائها على السماع، وغير ذلك من متفرداتهم في الأصول والفروع.

فتبيَّن لك أن لا معنى للتقية في الأحكام [والقول بذلك لا أساس له من الصحة]، ولو جازت «التَّقِيَّةُ» فيها لصدرت عنهم عليهم السلام أحاديث كثيرة موافقة للعامة في تلك المسائل الهامة التي كانت تلفت أنظار المخالفين، وكانوا دائماً في مقام الأخذ بأعناقهم فيها كي ينسبوهم إلى البدعة في الدين ومخالفة جميع المسلمين، كما فعلوا ذلك، ومع ذلك لم يُنْقَل من أحد من الأئمة كلامٌ اتَّـقَى فيه وخالفَ بحسب الظاهر عقيدتَه. ألا ترى كيف شاعت عنهم وذاعت بحيث لم تبق مِرْيةٌ ولا ريبٌ لعَدُوٍّ وصديقٍ ومخالفٍ ومؤالفٍ أن هذه المسائل من مذهب أهل البيت ومما تفردوا به، وخالفوا عامة المسلمين؟ فلو جازت «التَّقِيَّةُ» لوجب أن يصدر عنهم كلامٌ يخالف مذهبهم في أمثال هذه المسائل، لا المسائل التي كانوا يجدون موافقاً لهم فيها بين العامة واحداً وأكثر، لأنهم كانوا في مندوحة بوجود موافق منهم، وهذا أقوى دليل على أن الأئمة عليهم السلام، لم يكادوا يتَّقون في بيان الحكم الإلهي، فإن ذلك إدغال في الدين، وتلبيس على المكلّفين، وإضلال عن طريق الحق المبين، وأي مانع للإمام إذا اضطر إلى حفظ نفسه أو واحد من شيعته إذا سأله عدو اختباراً، أو صديقٌ في مشهد عدوان، أن يسكت عن الجواب ويضرب عنه صفحاً؟ أو يقول: أليس فلانٌ عندك فقيهاً فاسأله، أو دعني، فإني لست مشهوراً بالفقه عند الناس، وما ضاهى ذلك، مع أن المعلوم عند جميع العامة، ولاسيما سلاطينهم ورؤسائهم أن مذهب أهل البيت لا يوافق مذهبهم في كثير من مسائل الدين، فالحق الحقيق بالتصديق الموافق للتحقيق أن التقية في الأحكام غير جائرة، ولاسيما من الذين كلامهم حجة، والتقية الجائزة منحصرة في الموضوعات، وثبوتها فيها عقلي لا ريب فيه والكتاب والسنة يدلان عليها، ويشهدان بها ولا فرق في ذلك بين النبي J وبين خلفائه الأئمة الطاهرين عليهم السلام، إذْ كما أن التقية لا تجوز على النبيِّ فكذلك الإمام، ولولا ذلك لَضَلَّ الناسُ عن سواء السبيل، وزاغوا عن الصراط السوى وانقلب الهادي مضلاً، والمنجى مهلكاً، فالإمام الحق هو النائب عن الرسول في ما أرسل له، أعنى بيان أحكام الدين على ما أنزلت، وكما أراد الله تعالى، فلا يختلفان في وظيفتهما، ولم يتفاوت تكليفهما كما قال: إني تارك فيكم [الثقلين].... إلى آخر  كلامه صلى الله عليه وآله. 

ونزيدك على ما ذكرنا أن «التَّقِيَّةَ» في الأحكام لو جازت على ما اشتهر بين الأصحاب، لم يبق لنا وثوق واطمئنان على أكثر الأحاديث بصرف احتمال التقية، و لاسيما إذا لم يُشتَرَطْ في الحمل عليها اقترانُ الكلام الصادر بقرنية واضحة تدل على المراد والمرام، أعني صدروه على وجه التقية، ولم أعثر إلى الآن على حديث مشتمل على قرينة تدلُّ على كونه صادراً، تقيةً، فإن عثرتَ أنتَ أيها الأخ الفقيه على خبر واحد مقرون بشاهد دلَّ على ذلك فدُلَّني عليه وعَليَّ الشكر.

قال عدة من الأصحاب: إن المراد بقوله عليه السلام: نحن نلقى الخلاف بينكم كيلا يؤخذ برقابكم أنهم يفتون في مسألة واحدة بوجهين مختلفين، أو وجوه متخالفة لأصحابهم وخواص شيعتهم صيانة لنفوسهم، و يمكن أن تكون الأجوبة بأسرها على خلاف ما أنزل الله فأعلم أن غرضهم عليهم السلام من هذا الكلام ليس على ما اشتهر، بل المقصود أنا نأمركم بالتخالف فيما بينكم في المعاشرات وعدم إظهار الاتحاد قولاً وفعلاً، كيلا يعرف عدتكم ويخشى العدو قيامكم وثورتكم فيأخذ برقابكم، ولا يعقل أن يكون المراد أنا نفتى لكم في أحكام الدين بفتاوى مختلفة ونجيبكم فيها بأجوبة متفاوتة صوناً لدمائكم، كيف، وأحكام الدين يجب أن تحفظ إلى يوم القيامة، والأئمة عليهم السلام حُفَّاظُها، ولو ببذل النفس والنفيس، كما كانت سيرة النبي والأئمة عليهم السلام كذلك، ولو كتم الإمام الحقُّ الحقَّ، وأقام الباطل مقامه، لضاع الدين، وهل الدين إلا الأحكام، فإذا أضاعها حُفَّاظُها، ونشروا، حتى بين خواص أصحابهم، خلافَ ما أنزل الله، ولم ينصبوا قرينة تصونهم عن الزيغ والخطأ فيما قالوه تقيةً، والنُّبُوَّةُ قَدْ خُتِمَتْ، فمن يأتي بالحق بعد الضلال؟! فتذكَّر وتبصَّر!!"([7]). (انتهى من كلام السيد الغروي).

إذا دقَّقْنا النظر في الأمور التي ذُكِرَتْ أعلاه أدركنا أن معظم الموارد التي ادعى العلماء فيها أنها محمولة على «التَّقِيَّة»، كان موضوع الرواية مما تشمله حرمة «التَّقِيَّة» ولا تُقبل «التَّقِيَّة» فيه. ولكن إضافةً إلى ذلك حتى في غير الموارد التي تحرم «التَّقِيَّة» فيها أيضاً، فإن ادعاءَهم لا ينسجم مع الروايات الأخرى. فمثلاً بالنسبة إلى الرواية 13 من الباب 120 من أبواب الكافي التي تَنْسِبُ إلى الإمام الصادق u أنه أوصى إلى خمسة أشخاص من بعده بالإمامة، يقولون إن الإمام اتقى كي لا تعلم حكومة وقته خليفتَه ووصيَّه ويتم حفظ روح الإمام. فرغم أن هذا المورد ليس من موارد حرمة «التَّقِيَّة» ولكنه لا يتفق مع الروايات التي أوردها الكُلَيْنِيّ في الباب 120 من الكافي، لأنه طبقاً لروايات ذلك الباب كان الإمام مشهوراً إلى درجة أن الإمام الصادق u جعل أحد علامات الإمام أنه "يَكُونَ صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي إِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ سَأَلْتَ عَنْهَا الْعَامَّةَ والصِّبْيَانَ إِلَى مَنْ أَوْصَى فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"([8]).

فإذا كان الإمام مشهوراً إلى هذا الحد فما فائدة «التَّقِيَّة» عندئذ؟ بالطبع لا يخفى أن المجلسي ضعَّف رواية الباب 128 أما الرواية الأولى والخامسة من الباب 120 فاعتبرهما صحيحتين واعتبر أن الرواية الثانية من الباب المذكور حسنة.



([1])   شرح الأصول من الكافي، صدر الدين الشيرازي، ص378.

([2]) المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 8، ص 138. ومن الجدير بالذكر أن المَجْلِسِيّ نفسه بسبب تعصبه المذهبي الشديد أوَّل كثيراً من الروايات بحملها على التقيَّة ولم يلتزم بكلامه الذي أورده ههنا.

([3]) وهو ما أشار إليه علي (ع) بقوله السنة الجامعة غير المفرِّقة.

([4])   الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 150 (من طبعة قم بتحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1409هــ، في 29 مجلداً). وفي مصادر أهل السنة: أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/209، رقم 20700)، وابن عساكر في تاريخ دمشق(7/38) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وأخرجه أيضاً: ابن عدي في الكامل (2/79، ترجمة 302 بقية بن الوليد) وبدايته: يرث هذا العلم من كل خلف عدوله... الخ الحديث. (المُتَرْجِمُ)

([5]) أصول الكافي، ج 1، ص 32. (المُتَرْجِمُ)

([6]) وأيضاً لا ينسجم ذلك مع قوله تعالى واصفاً المؤمنين الصادقين: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة/54] وقوله تعالى أيضاً: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾  [لقمان/17] (المُتَرْجِمُ)

([7])   آية الله محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني، مغرب [أي الغروب]، أصفهان، نشر حُجَّت، د.ت، ص 125 - 126. (المُتَرْجِمُ)

([8])   الكُلَيْنِيُّ، أصول الكافي، بَابُ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ حُجَّةَ الْإِمَامِ (ع)، ج1، ص 284.