141. معنى التأويل في القرآن

في نظرنا، لقد أوضحت الآية 4 من سورة يوسف بشكل جيّد المراد من «المتشابه» و«التأويل»: ﴿قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف/4].

من البديهي أن معنى هذه الآية ومفهومها لم يفهمه يوسف وأبوه - عليهما الصلاة والسلام - فحسب، بل فهمه كل من سمعه، دون أي إبهام، وحتى فهم بشكل إجمالي أن هذه الرؤيا ذات عاقبة حسنة لمن رآها وأنه سينال خيراً في المستقبل. ولكن لم يكن أحد يعلم كيفية الوقوع الخارجي لهذه الرؤيا وطريقته، وبعبارة أخرى «تأويل» تلك الرؤيا والعلم التفصيلي بحقيقتها، إلا بعد سنوات طويلة عندما أصبح يوسف u زعيماً في مصر وعندما جاء إخوته وأبوه وأمه إلى مصر وتواضعوا أمامه واعترفوا بعلوّه شأنه ورفعة مقامه، حينئذ اتضح مفاد تلك الآية والرؤيا للجميع. وعندئذ قال يوسف: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾  [يوسف/100].

وكذلك قال الله تعالى للذين شغلوا أنفسهم في هذه الدنيا باللهو واللعب ونسوا القيامة: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف/53]، وقال أيضاً: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾  [يونس/39].

من  الواضح أن «التأويل» في هذه الآيات ليس من سنخ المعنى والمفهوم، لأن المعنى والمفهوم لا يُقال بشأنه «يأتي»، بل يُقال «يُفهَم ويُدرَك» أو لا يُفهَم ولا يُدرَك، ولكن لا يُقال قطعاً" أتى المعنى أو المفهوم أو ذهب.

الآن، بعد هذه المقدمة، يمكننا أن نتأمّل الآية 7 من سورة آل عمران ونتدبرها. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران/7].

كما هو ملاحظ، نشاهد في هذه الآية استخدام أسلوب «التقابل» البياني. إذ جُعِلَت «الآيات المحكمات» في مقابل «الآيات المتشابهات»، وجُعِل ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ في مقابل ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾. فعلينا أن نعلم ما المقصود من هذا التقسيم.

يتبيّن مما ذكرناه أنه لما كانت آيات القرآن واضحة الدلالة فصيحة المعاني تماماً، اُعتُبِرَت من هذه الزاوية «محكمة» كلها، ولما كانت متشابهة يشبه بعضها بعضاً في السلاسة والجمال وصحة المطالب وكونها حكيمة اُعتُبَرَت من هذه الزاوية «متشابهة» كلها. فالمقصود من هذا التقابل هو أن آيات القرآن بالنسبة إلى المخاطَبين نوعان:

1 - آيات محكمات تشكل أصل القرآن وأساسه ومعظم آيات القرآن هي من هذا النوع. هذه الآيات تُفهَم بشكل كامل وهي واضحة وقطعية وتُعَدُّ من أسس الإسلام ومبانيه، ويجب أن تُفهَم بقية الآيات وتفسَّر على ضوئها.

قال مؤلِّف «تفسير  الميزان» في تفسيره للآية السابعة من سورة آل عمران:

"... آيات الكتاب تنقسم إلى قسمي المحكم والمتشابه..........

والمراد بالمتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فَتُعَيِّنُ هي معناها وَتَبَيِّنُهَا بَيَانَاً".

وقال أيضاً: "... وقد وصف المحكمات بأنها «أم الكتاب»، والأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات".

2- النوع المقابل لها وهي عدد من الآيات التي لا يعلم أحد سوى الله كيفية وقوعها وكَمِّيته وطريقة تحقُّقها في عالم الخارج. ولكنها على كل حال تابعة للمحكمات، وتُعتَبر فَرعاً لها. ولكن هذا ليس معناه أن مفهومها ودلالتها مجهولان تماماً ولا يمكن إدراكهما، مثلاً لا يمكن فهم معناها أصلاً ولا ترجمتها.

وقُسِّمَ عباد الله والمخاطَبون بآيات الله أيضاً في هذه الآية إلى مجموعتين:  

1- الذين في قلوبهم مرض وانحراف عن الحق ويتبعون أهوائهم وفي قلوبهم زيغ نحو الباطل وينحرفون عن دين الله بأقل حجة.

2- المؤمنون الذين يتجردون للحق  ويستسلمون له بصدق ولا يبحثون عن حجج وأعذار، فهم راسخون في إيمانهم، ولو لم يتضح لهم أمر جزئي وفرعي ولم يدركوا تفاصيله فإنهم لا يفقدون الأصول المسلَّم بها والمتينة لإيمانهم الذي لا يتطرَّق إليه الخلل، وبما أنَّهم فهموا المُسلَّمات والمُحكمات التي تُشكِّل أصل الإسلام وأساسه فإنهم وصلوا إلى علم إجمالي بأن الأمور التفصيلية والمُتشابهة حقٌّ وصدق ولو لم يتمكَّنوا من معرفة تفاصيلها وكيفياتها، وبعبارةٍ أخرى لا يتركون معارفهم القطعية بحجَّة الأمور التي لم يعرفوها.

وكما يقول المفسر القدير وأخونا الكريم جناب السيد «مصطفى الحسيني الطباطبائي» حول هذه الآية: إن الكلام فيها عن الأشخاص الذين يتركون حقيقة القرآن وأصله وأساسه، وأسسَ الإسلام الواضحة تماماً ويسعون دائماً وراء التأويل والبحث عن التفاصيل الجزئية للمتشابهات، فإذا لم تتضح علة أمر من الأمور وكيفيته جعلوا هذا مستمسكاً لكفرهم وحجة له، وكان ذلك سبباً لاهتزاز إيمانهم فتجدهم يسعون إلى تصوير إيمان الآخرين على أنه إيمان لا مبرر له وإلى هز إيمان الناس وعقيدتهم! مثل هؤلاء الأفراد كانوا موجودين دائماً منذ صدر الإسلام وحتى اليوم ولم تتغير حججهم. وهذا على العكس من منطق أهل الإيمان الذين يجدون دائماً في شؤون الدنيا المختلفة والمتغيرة مصاديق وقرائن ودلائل جديدة تجعل إيمانهم يتكامل ويزداد يوماً بعد يوم. فمثلاً لا يغفلون ولا يتغافلون عن آلاف الدلائل التي تثبت بوضوح وجود الله العليم الحكيم، فإذا لم تتضح لعقولهم الناقصة حكمة شيء في مورد من الموارد -رغم أن هذا الشيء لا ينفي المحكمات العديدة والواضحة ويجب أن نَكِلَهُ إلى فكرنا المحدود وعلمنا القاصِر أمام علم الله وحكمته العظيمة غير المتناهية - لا يجعلون ذلك حجة للكفر والتخلي عن الإيمان!

أما الفريق الثاني: أي المؤمنون أو الذين سماهم القرآن «أُولُو الأَلْبَاب» و«الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» فلما كانوا قد فهموا الآيات المحكمات في كتاب التشريع (=القرآن) وكتاب التكوين (=الطبيعة) ورأوا في موارد لا حصر لها تقدير الله تعالى وحكمته، قبلوا بعض الموارد الجزئية والمتشابهة وإن كان تأويلها غير واضح بالنسبة إليهم لكن هذا لم يقلقهم بل قبلوا بهذه الأمور تبعاً للمحكمات وفي ظلها، ولم يجعلوا عدم العلم التفصيلي بهذه الأمور حجة لرد المحكمات، ويقولون إن هذه الأمور المتشابهة لها قطعاً علل وعوامل رغم أنها ليست واضحة بالنسبة إلينا بشكل كامل ولكن من المقطوع به أن الله العليم الحكيم يعلم حكمتها وسببها، فنحن نؤمن بكلا النوعين من الآيات. على سبيل المثال كل ما نعلمه عن الآخرة هو أن البشر سيحشرون بعد موتهم ثم طبقاً للاستحقاق الذي اكتسبوه في زمن حياتهم الدنيوية سينتقلون إما إلى الجنة إي مكان النعيم الماديّ والمعنويّ، وإما إلى جهنم أي مكان الألم والعذاب الظاهري والباطني (أي الجسمي والمعنوي) ولكننا في الوقت ذاته لا نعلم الكيفية الدقيقة للعالم الآخر والأجزاء التي تشكله وزمن ظهوره و.....، تماماً كما هو شأن الله الذي نؤمن بوجوده القطعي ولكن حقيقة ذاته محجوبة عنا. هل هناك من عاقل يجعل من عدم علمه بكنه ذات الله دليلاً وحجةً على إنكار أصل وجوده تعالى؟!

وللأسف فإن أعداء الإسلام سعياً منهم لحرمان الناس من فوائد القرآن الكريم، بمجرَّد أن يروا شخصاً ناصحاً خَيِّراً يستند لإثبات مطلبه إلى آيات من القرآن يمنعونه فوراً ويقولون له إن في القرآن «آيَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ» ولا يمكن لأي أحد أن يفهمها بل «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» وحدهم فقط يفهمونها، وهؤلاء منحصرون في الـ 14 نفراً!! ([1])

في رأينا ليس هناك عداوة للقرآن والإسلام أشدّ من هذا! وليس لمثل هذا الكلام من فائدة سوى إبهاج قلوب اليهود والنصارى!

بحجة أن في القرآن متشابهات، صارَ المغرضون يردُّون كلَّ آيةٍ [لا يعجبهم معناها الظاهري ولا يوافق عقائدهم الغالية وأهواءهم] بحجَّة أنها من المتشابهات، أو أنها قد تكون من المتشابهات، وبالنتيجة وبهذه الخدعة سلبوا من كل متكلم إمكانية الاستناد إلى القرآن والاستدلال بآياته، وقالوا إن الإمام وحده يعرف المعنى الحقيقي للآية. وقد انتشر هذا الفكر الخاطئ وشاع هذا الانحراف الكبير بفضل أحاديث الكافي الضعيفة ونظائرها من الروايات التي أدت إلى تحييد القرآن وعزله، وحرمان الناس من كتاب الله([2]).

ولكن دليلهم عليل وكيدهم ضعيف، لأننا سنُعَرِّف فيما يلي بالآيات المتشابهات ونُبَيِّن ماهيّتَها، فنقول لإيقاظ من يبحث عن الحق ويطلب الحقيقة:

أولاً: قال تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ وَلَمْ يَقُل: (وَمَا يَعْلَمُ مَعْنَاُه إِلَّا اللهُ!) فلماذا تقولون كاذبين أن لا أحد يمكنه أن يعلم مفهومه ومعناه؟! مع أننا نعلم أن تأويل الآيات غير معنى الآيات. إن معنى آيات القرآن جميعها واضحٌ يمكن لكل الناس أن يفهموه. ويمكننا أن نترجمها لغير العرب، وأن نفهمها لهم، حتى أن بعض علماء الحوزة العلمية في قم قاموا بترجمة القرآن كله إلى اللغة الفارسية، فاعترفوا عملياً بأن الآيات المتشابهات في القرآن كلها فصيحة وسلسة وقابلة للفهم وإلا لما كان ينبغي أن يترجموا كتاب الله!

وقال مؤلِّف «تفسير الميزان» ذيل تفسيره الآية 7 من سورة آل عمران أيضاً:

"على أنَّ كلَّ مَنْ يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آيةٌ لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول...".

نعم، نحن نُقِرُّ بالطبع أننا لا نعلم تأويل المتشابهات، ولكننا لسنا مأمورين بأن نعلم  ذلك  علماً تفصيليّاً، ولكم لماذا لا نعلم معناها ومفهومها الإجمالي؟

ثانياً: ألم تنزل «الآيَاتُ المُتَشَابِهَاتُ» باللغة العربية ولسان قوم النبي o واعتبر الله تعالى مراراً أن القرآن كتاب مبين، وأن آياته «بيِّنات» واعتبره نوراً؟ فكيف يمكن أن يكون معنى بعض آيات القرآن غير مفهوم وفي الوقت ذاته يعتبر الله القرآن كله كتاباً مُبيناً ونوراً ويلومنا على عدم تدبُّره وعدم الإيمان بما تقوله آياته؟!  ليت شعري! كيف يمكن التصديق والإيمان بمضمون كلام غير مفهوم وكيف يمكن تدبُّره والتمعُّن فيه؟!

ثالثاً: لو كان معنى «الآيَاتُ المُتَشَابِهَاتُ» غير قابل للإدراك، لكان نزولها في هذه الحالة لغواً، ومن المقطوع به أن الله الحكيم العليم لا يقوم بعملٍ عبثيٍّ ولغوٍ. هذا مع أن هناك دلائل قرآنية كثيرة على أن «الآيَاتُ المُتَشَابِهَاتُ» مفهومة المعنى، من ذلك ما قاله تعالى بشكل متكرر في سورة القمر: ﴿لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر/17]، فهذه الآيات مطلقة تشمل بإطلاقها كل آيات القرآن بما في ذلك «الآيَاتِ المُتَشَابِهَاتِ» ولو كانت «الآيَاتِ المُتَشَابِهَاتِ» غير قابلة للفهم لقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا بعض الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، ولكنه لم يقل مثل ذلك.

رابعاً: قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء/82]، وقال أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص/29]. هذه الآيات مطلقة أيضاً وتشمل بإطلاقها آيات القرآن جميعها بما في ذلك «الآيَاتِ المُتَشَابِهَاتِ»، وعليه فلا بد من تدبُّر الآيات المتشابهات وفهمها والتمعُّن بمعناها.

خامساً: كل الآيات القرآنية التي تعتبر القرآن نوراً وكتاباً مبيناً وهدىً للناس، تنفي بعموميتها عدم إمكانية فهم معنى «الآيَاتِ المُتَشَابِهَاتِ» إذْ لو لم تكن المتشابهات مفهومة المعنى لما كانت هدىً للناس.

سادساً: الإشكال الآخر هو أنه لو انطلت خدعة كون «المُتَشَابِهَاتِ» غير قابلة للفهم على المسلمين وظنوا أن عدم العلم بتأويل المتشابهات بمنزلة عدم العلم بمعناها، ففي هذا الحالة، وكما يقول المفسِّر المصلِح الحاج ميرزا يوسف شعار -رحمه الله - لن يكون في مقدورنا أن نرُدَّ -مثلاً- على الذين يقولون بإمكانية رؤية ذات الباري تعالى يوم القيامة،  نردَّ عليهم بقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام/103] وأمثالها، لأنهم عندئذٍ سيستغلُّون حربة عدم إمكانية فهم معنى الآيات المتشابهات ذاتها ويفسِّرون الآية حسب فهمهم وهواهم، وهكذا سيفعل أتباع سائر المذاهب إذْ سيفسِّرون آيات الله خلافاً لظاهر معناها وحسب مضمون رواياتهم المذهبية [ويقولون إنها من المتشبهات!]. كما أنه عندما يواجه بعض من ليس لهم علم كاف بالقرآن آيةً لا يدركون في الوهلة الأولى معناها سيعتبرونها من المتشابهات وسيمنعون الآخرين من الاستدلال بها!

 والإشكال الآخر أيضاً أن رواة الكُلَيْنِيّ ادَّعَوْا أن الأئمة أيضاً يعلمون تأويل الآيات المتشابهات، إذْ هم ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ الذين ذكرتهم الآية. وهذا الأمر لا يمكن إلا إذا اعتبرنا حرف «الواو» الذي جاء قبل جملة ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ حرف عطف، لا واو الاستئناف. وهذه الدعوى بحد ذاتها تثبت أن واضعي الحديث جاهلون بالقرآن لأنه:

أولاً: لو كان حرف «الواو» هنا حرف عطف، لأصبح معنى الآية عندئذٍ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كلاهما، اللذين يَقُولُونَ كلُّهم (الله والراسخون في العلم) آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا!!! مع أنه من البديهي أنه لا يمكننا أن نقول إن الله يؤمن بأن الآيات المتشابهات من عند ربِّه!! فليس لِـلَّهِ تعالى ربٌّ ولا يصح بشأنه أنه يؤمن بآيات الله! ولو أردنا أن نحل هذا الخطأ الفاضح مع إصرارنا على اعتبار حرف الواو هنا حرف عطف، عندئذٍ سنضطر - دون دليل - إلى تقدير محذوف مقدَّر هو ضمير «هُم» بعد عبارة ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، ولكن حتى في هذه الصورة لن نحصل على معنى مفيد ومعقول. لأنه لو كان ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾  يعلمون تأويل المتشابهات مثل علم الله بها، ومع ذلك يقولون:  آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا! فإن هذا الاعتراف والإقرار ليس فيه أي فضيلة، تماماً كما لا يفيد عباد الله - سواء مؤمنهم أم كافرهم - معرفتهم بتأويل الآيات يوم القيامة وإيمانهم بها، ولا يُعَدّ مثل هذا الإيمان حينئذٍ فضيلةً لهم. لكن من الواضح تماماً أن الآية تريد أن تثبت فضيلةً إيمانيةً للفريق الثاني (الراسخون في العلم)، كما أن هذا التفسير - كما سوف نرى - لا يتَّفق مع تفسير الأئمَّة عليهم السلام لهذه الآية([3]).

ثانياً: كلمة «أمَّا» في الآية هي بالاتفاق «أمَّا» التفصيلية، وأهل النحو يعلمون جيداً أنه لا بد أن تتكرر مرة ثانية أي أن يكون لها زوجها أو قرينها الثاني، ولكن يمكن أن يُحذَف هذا الزوج إذا وجدت قرينة تدل عليه، وعندئذٍ تكون «أمَّا» الثانية مقدَّرة حتماً.  في هذه الآية جاءت «أمَّا» الأولى قبل الفريق الأول: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، وهنا نطلب من رواة الكُلَيْنِيّ أن يعينوا لنا مكان «أمَّا» الثانية. لا شك أنهم لن يجدوا لها مكاناً سوى قبل الفريق الثاني المقابل وهو كلمة: ﴿الرَّاسِخُونَ﴾. ومن هذا التوضيح يَتَـبَيَّنُ بطلان عطف كلمة ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ على لفظ الجلالة في الآية.

غالباً ما يشير علماء النحو عند حديثهم عن «أمَّا» التفصيلية إلى هذه الآية، ومن جملتهم «ابن هشام» صاحب الكتاب النحوي الشهير «مغني اللبيب»، والذي يُعَدُّ من أوثق النحاة، إذْ يقول في كتابه:

"وقد يُتْرَكُ تكرارها [أي تكرار «أمَّا» التفصيلية] استغناءً بذكر أحد القسمين عن الآخر، أو بكلام يذكر بعده في موضع ذلك القِسْم، ...... نحو: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ. [وأَمَّا غيرهم فيؤمنون بما تشابه منه ولا يبتغون الفتنة وَيَكِلُون معنى تلك الآيات إلى ربِّهم] وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران/7] أي كلٌّ من المتشابه والمحْكَم من عند الله، والإيمان بهما واجب، وكأنه قيل: وأَمَّا الراسخون في العلم فيقولون..."([4]).([5])

ثالثاً: يقول رواة الكُلَيْنِيّ إن «الراسخين في العلم» منحصرون في النبيَّ والأئِمَّة فقط لا غير.  لكنَّ هذا الادِّعاء يخالف القرآن، لأن الله تعالى اعتبر علماء اليهود الذين يؤمنون بالقرآن من  «الراسخين في العلم» فقال:  ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [النساء/162].

فإذا كان علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي راسخين في العلم، فإن علماء المسلمين يمكنهم من باب أولى أن يصلوا إلى مقام الرسوخ في العلم. إن كل من بذل جهده في تحصيل علم ما، وتخصَّص فيه واكتسب المهارة يمكن أن نطلق عليه عبارة الراسخ في ذلك العلم، وهذا الأمر ليس منحصراً بفئة معينة من الأشخاص، ولا يمكننا أن نجمِّد القرآن ونقصره على أفراد معينين، فكلما وجدنا فيه صفةً حسنةً صالحةً أو صفةً سيئةً، قلنا إن المقصود منها أفراد معينين. إن الذين جعلوا القرآن كتاب مدحٍ وقدحٍ لأفراد بعينهم قد صغَّروا في الواقع شأن القرآن وأفقدوه عموميته، وفي نظرنا هؤلاء الأشخاص ليسوا بعقلاء([6]).

رابعاً: نسأل مُدَّعي قَصْر الرسوخ في العلم على الأربعة عشر نفراً فقط: هل قام أولئك الأربعة عشر (النبيّ والأئِمَّة) بشرح «الآيات المتشابهات» للمسلمين أم لا؟ إن شرحوها لهم فقد أصبحت هذه الآيات المتشابهات واضحةً قابلةً للفهم. ولكن عليكم أن تبيِّنوا لنا أين بيَّن النبي والأئمة معنى المتشابهات؟ أما لو قلتم إنهم لم يُبَيِّنوا معنى المتشابهات، فالسؤال الذي يطرح نفسه عندئذٍ: لماذا لم يفعلوا ذلك؟ هل قام الله الحكيم - نعوذ بالله تعالى - بعملٍ لغو وأنزل آيات لا يفهم معناها أحد إلا أربعة عشر نفراً، وهؤلاء الأربعة عشر لم يوضحوا معناها لأحد!! فما فائدة هذه الآيات في هذه الحال ولماذا ذُكِرَت في كتاب الهداية؟

خامساً: لحسن الحظ لقد فسَّر أمير المؤمنين علي u هذه الآية من سورة آل عمران، ولكن العجب العجاب مِمَّن يدَّعون حبّ أهل البيت ويقولون إنهم يعتبرون الأئمَّة مفسِّري القرآن، لكنهم لا يعيرون اهتماماً لتفسير الأئمَّة لهذه الآية!! إن هذا يُـبَيِّنُ أن المتعصِّبين إذا رأوا أن كلام الإمام لا يتَّفق مع أهوائهم، لم يذكروه!

لقد قال الإمام عليٌّ u: "واعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الإقْرَارُ([7]) بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً؛ فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ...". (نهج البلاغة، الخطبة 91)([8]).

سادساً: كما ذكَّرْنا في الصفحة 116-117 في هذا الكتاب، أحاديث هذا الباب تتعارض مع الجزء الأول من الحديث 12 من الباب الأول في الكافي، إذْ لم يتمّ هناك حصر «الرسوخ في العلم» بالأئمة فقط، ولكن في هذا الباب اُعتُبِر النبيُّ والأئمَّةُ وحدَهم مصداقَ «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» بل في الحديث الثالث نسي الراوي حتى أن يذكر النبي J أيضاً في عداد «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»!



([1])   المقصود من الـ 14 نفراً النبي J وابنته الزهراء عليها السلام والأئمة الاثني عشر (ع)، وهم المعصومون الأربعة عشر في عقيدة الشيعة الإمامية. (المُتَرْجِمُ)

([2])   إن ما يثير العجب والأسف في الوقت ذاته أن علماءنا -إلا قليلاً مِمَّن ما رحم ربك-  بدلاً من أن يقومون بإرشاد الناس وهدايتهم ويسعوا إلى زيادة تعريف الناس بالقرآن وتقريبهم منه وجعلهم يستفيدون منه، يشتغلون بالسفسطة والمغالطات وخداع العوام!  اللهم إني أعوذ بِكَ مِنَ التعصُّب.

([3])   يقول مؤلِّف «تفسير الميزان» أيضاً ذيل تفسيره الآية 7 من سورة آل عمران: " فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى....... ولو اعتبر شخصٌ «واو» وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حرف عطف وأراد أن يجعل بذلك الراسخين في العلم مِمَّن يعلم بتأويله..... فإنه يكون قد ارتكب خلاف الظاهر". 

([4])   ابن هشام النحوي، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ص 81.

([5])   ذكر المرحوم الحاج يوسف شعار (رح) في كتابه المستطاب «تفسير الآيات المشكلة» (الفصل 30) حول الآية السابعة من سورة آل عمران مطالب مفيدة للغاية أوصي إخوتي في الإيمان بمطالعتها.

([6])   لو قال شخص إن الأئمَّة عليهم السلام راسخون في العلم، لقبلنا كلامه بلا أي تردد، فنحن لا ننكر أبداً أن أولئك الأئمة الأجلاء الكرام كانوا راسخين في العلم فعلاً. لكن كلامنا هو حول الأحاديث التي تحصر الرسوخ في العلم بهم فقط، وقد تبين لنا أن هذا الادِّعاء لا ينسجم مع القرآن الكريم، وهو مرفوض من الأئمَّة أنفسهم بالتأكيد.

([7])   الإقْرَارُ: فاعل فعل: أَغْنَاهُمْ.

([8])   لا يخفى أن حضرة السجاد (ع) قال في الفقرة 4 و7 من الدعاء رقم 42 في «الصحيفة السجادية» مناجياً ربه: "فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَيَدِينُ لَكَ بِاعْتِقَادِ التَّسْلِيمِ لِمُحْكَمِ آيَاتِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِمُتَشَابِهِهِ، وَمُوضَحَاتِ بَيِّنَاتِهِ. وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ حَتَّى لَا يُعَارِضَنَا الشَّكُّ فِي تَصْدِيقِهِ، وَلَا يَخْتَلِجَنَا الزَّيْغُ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِهِ. (7) اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ، وَيَأْوِي مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَى حِرْزِ مَعْقِلِهِ، وَيَسْكُنُ فِي ظِلِّ جَنَاحِهِ، وَيَهْتَدِي بِضَوْءِ صَبَاحِهِ، وَيَقْتَدِي بِتَبَلُّجِ أَسْفَارِهِ، وَيَسْتَصْبِحُ بِمِصْبَاحِهِ، وَلَا يَلْتَمِسُ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ.".