155. الإرث في القرآن

قبل أن ننتقل إلى نقد وتمحيص الأحاديث التالية، من المفيد أن نذكر بعض الأمور حول مسألة «الإرث» في القرآن. وبالطبع قد تحدَّثنا سابقاً في هذا الكتاب حول هذا الموضوع (ص 229 -230) ولكننا مضطرّون إلى التذكير مرَّةً ثانيةً بما يلي:

أولاً: بغضِّ النظر عن المعنى الفقهي للإرث الذي جاء في آيات القرآن ومنها الآية 233 من سورة البقرة وآيات الإرث في سورة النساء، وبمعزلٍ أيضاً عن الآيات التي اعتبرت السماوات والأرض مُلْكاً لِـلَّهِ واستُخدِمَت فيها مادة فعل «وَرِثَ» (كالآية 180 من سورة آل عمران، والآية 58 من سورة القصص، والآية 40 من سورة مريم، والآية 10 من سورة الحديد، و....)؛ فإن هذا المصدر استُخدِم في معانٍ أخرى أيضاً، ومنها استخدامه بحقِّ من دخلوا الجنّة (من ذلك الآية 43 من سورة الأعراف، والآية 105 من سورة الأنبياء، والآية 11 من سورة المؤمنون، والآية 63 من سورة مريم و....). والمعنى الآخر الذي استُخدِم فيه مصدر «وَرِث» هو الكلام عن حصول الجيل اللاحق على أراضي الجيل السابق وأموالهم وديارهم (كالآية 128 والآية 137 من سورة الأعراف، والآية 27 من سورة الأحزاب، والآية 28 من سورة الدخان، والآية 59 من سورة الشعراء).

ثانياً: استُخْدِم فعل «أَوْرَثَ» في بعض الحالات التي كان نبيٌّ من الأنبياء يترك فيها تعاليمه وكتابه في أمته، على معنى أن فاعل التوريث هو الله والوارثون هم أفراد الأمة جميعهم لا الأفراد الذين يُعتَبرون ورثةً حسب قوانين الإرث. (مثل الآية 169 من سورة الأعراف، و32 من سورة فاطر، و53 من سورة غافر، و14 من سورة الشورى).

ثالثاً إذا كان الوارث نبياً فبالطبع سيكونُ الإرثُ الموروثُ عنه نعمةَ النُّبُوَّةِ والكتابَ وعلومَ الشريعة. (كما في الآيتين 5 و6 من سورة مريم، والآية 16 من سورة النمل التي مرَّ معنا توضيحها في الصفحة 230). ولهذا إذا كان المقصود من التوريث هو هذا المعنى، ففي هذه الحال سيُعتَبَر الوارثُ بشكل غير مباشر نبياً، وهذا الموضوع لا ينطبق على الأئِمَّة الذين ليسوا بأنبياء، وبالطبع فالأئِمَّةُ أنفسهم لا يدَّعون وراثتهم للنبيِّ J على هذا المعنى.

ولا يخفى أن وراثة النُّبُوَّة استُعمِلت في القرآن في موارد يكون فيها الوارث والمُوَرِّث كلاهما من الأنبياء ولذلك استُخدِم هذا التعبير في حالة سليمان ويحيى -عليهما السلام- فقط، ولم يستخدم في حالة الأنبياء الآخرين.

ß الحديث 2 - روى «علي بن الحكم» الأحمق الذي روى إن القرآن نزل سبعة عشرة ألف آيةً، عن «عبد الرحمن بن كثير» الكذَّاب([1]) أن رسول الله J قال: "وَمَا مِنْ نَبِيٍّ مَضَى إِلَّا وَلَهُ وَصِيٌّ". هذا مع أن يعقوب (ع) وداود (ع) وكثير من الأنبياء الذين كان أولادهم أيضاً حائزين على مقام النُّبُوَّة لم يكن لهم وصيٌّ على ذلك المعنى الذي يقصده الكُلَيْنِيّ وأمثاله. ثم يقول الحديث "أَمَا إِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ عِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ" هذا في حين أننا نعلم جميعاً أن القرآن نزل على النبيِّ الأكرم J عندما بلغ أربعين سنةً من عمره، وقد قال تعالى له: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى/52]. وقال أيضاً: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص/86].

وبناءً على ذلك حتى لو أثبتنا ميراثاً للنبي، فإن هذا الميراث ليس ميراثاً فقهياً بل يمكننا أن ندرك، استناداً إلى ما أوضحناه قبل ذكر هذا الحديث، أن واضع الحديث الجاهل لم يفهم أن وراثة النبي عن الأنبياء الذين سبقوه هي نُبُوَّته،  وهذا الميراث -خاصةً بالنسبة إلى خاتم النبيين- لا يقبل الانتقال إلى عليٍّ u الذي لم يكن نبيّاً، وَمِنْ ثَمَّ فلا يمكن أن ينتقل بعده بالإرث إلى أولاده. والحاصل أن الإمام الباقر (ع) لا يمكن أن يُعَبِّر عن ذلك بكلمة «ميراثنا».

ثم إن واضع هذا الحديث لم يحسن الكذب لأنه في بداية الحديث قال «قال رسول الله» وَمِنْ ثَمَّ كان عليه أن يقول في وسط الحديث «إني وَرِثْتُ» لكنه قال «إن محمداً وَرِثَ»! فالعجب من الذين يدَّعون العلم والاجتهاد لكنَّهم يقلدون الكُلَيْنِيَّ قليل العلم ورواتِه الجهلةَ في الأصول والفروع!

ß الحديثان 3 و4 - سندهما في غاية الضعف. فـ«الْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ» و«عَبْدُ اللهِ بْنُ الْقَاسِمِ» و«سَلَمَةُ بْنُ الْخَطَّابِ» من الضعفاء الذين عرَّفْنا بهم سابقاً([2]). و«زُرْعَةُ بْنِ مُحَمَّدٍ» واقفيٌ أيضاً وقد سمَّى علماء الشيعة الواقفةَ بالكلاب الممطورة.

أما الحديث الرابع فقد ذكرنا أن المَجْلِسِيّ صحَّحه لكنه اعترف انه لو كان المقصود من «ضُرَيس» فيه: «ابن عبد الواحد بن مختار» فالحديث مجهولٌ.

في هذا الحديث ادُّعي أن "النبيَّ الأكرم J وَرِثَ سُلَيْمَانَ وَإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً‏ o!". (ولا ندري لماذا لم يرث يحيى وعيسى سليمانَ كي يرثَ نبيُّنَا عيسى أيضاً؟ لأنه كما ذكرنا المقصود بالإرث هنا إرث النُّبُوَّة). ولكن محمداً J الذي وَرِثَ سليمانَ (ع) كان نبياً نفسه، وورث النُّبُوَّة، أما الأئِمَّةُ الذين لم يكونوا أنبياء ولا يتمتعون بالنُّبُوَّة فيكف يرثون ميراث الأنبياء؟!

ثم إن الإمام يقول في هذا الحديث: "لَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمَ إِنَّمَا الْعِلْمُ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَوْماً بِيَوْمٍ وَسَاعَةً بِسَاعَةٍ"!! فلنفرض أن ميراث الأنبياء الذي يستند إلى الوحي وصل إلى الأئِمَّة بالإرث فكيف يصل لهم هذا العلم غير الموروث؟ هل تقولون إن الأئِمَّةَ كان يُوحَى إليهم أيضاً؟ هل تعتبرون علم الأئِمَّة أعلى شأناً من الوحي؟ هل كان واضع هذا الحديث يفهم فعلاً ما يُلَفِّقُهُ من كلام؟

ß الحديث 5- راويه «ابن مُسكان» الذي قال عنه الكِشِّيّ إنه لم يسمع من الإمام الصادقu إلا حديثاً واحداً (رجال الكِشِّيّ، ص237) كما أن «أبا بصير» لا يتمتع بحال محمودة، ولا يوثَق برواياته.

ß الحديث 6 - راويه «الحسين بن سعيد» الغالي. والراوية الأول في سند هذا الحديث   «عبد الله بن سِنان» الذي عرَّفنَا به في ما سبق([3]). هذا الحديث كما أشرنا سابقاً يعارض أحاديث الباب 78، من هذا يَتَبَـيَّنُ أن الكُلَيْنِيّ لم يكن يهتم بتوافق الأحاديث مع بعضها أو تعارضها وتناقضها.

ß الحديث 7 - ادُّعي في هذا الحديث المجهول أن النبي الأكرم J كان قادراً على إحياء الموتى كحضرة عيسى u وكان قادراً على فهم منطق الطير كحضرة سليمان u. ونقول إن القرآن يقول: ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ﴾ [الأنعام/109، والعنكبوت/50]. وقال أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [الرعد/38، وغافر/78]. فكما نلاحظ ليست الآيات والمعجزات بيد الأنبياء، بل إن الله الحكيم هو الذي ينزّل المعجزة ويظهرها متى رأى مصلحةً في ذلك تأييداً لنبيٍّ من أنبيائه، وهذا الأمر ليس بإرادة النبيِّ دائماً (الأنعام/35) ولذلك وكما ذكرنا سابقاً (ص 155) لا دليل لدينا على أن عيسى (ع) كان يفهم منطق الطير ولا أن موسى (ع) كان يُحيي الموتى.

وقد افترى الرواةُ في هذا الحديث فريةً أخرى على الأئِمَّة تتعلَّق بآيتين من القرآن لا علاقة بينهما ومن المستحيل أن لا يكون الإمام عالماً بذلك. يقول واضع الحديث إن الأئِمَّة قالوا لقد ورثنا الكتاب المذكور في قوله تعالى ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ !!

هذا مع أنه من الواضح تماماً أن «الكِتَاب» في الآية الأخيرة جاء بمعنى العلم الإلهي واللوح المحفوظ، كما قال تعالى في الآية التي قبلها ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [النمل/74]. ثم قال: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل/75].

وهكذا فسر الشيخ الطَّبْرَسِيّ الآيةَ في تفسيره «مجمع البيان».

ومن الواضح والبديهي أن «الكِتَاب» المذكور في الآية المذكورة غير «الكتاب» المشار إليه في الآية 32 من سورة فاطر. ولهذا السبب فإن راوي الحديث نقل آية سورة فاطر بشكل مبتور وناقص لأنه كان يعلم أنه لو قرأ الآية حتى آخرها فسيتبيّن أنه لو اعتبرنا الآية محصورة بالأئمة وقلنا إن المراد بالعباد هم الأئِمَّة لأصبحت الآية إهانة للأئِمَّة!!

دعونا نقرأ آية سورة فاطر هنا: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر/32].

ونسأل الراوي الجاهل: أي إمام من الأئِمَّة كان ظالماً لنفسه، وأي إمام كان مقتصداً؟!!  لا ندري لماذا أورد الكُلَيْنِيّ هذا الحديث في كتابه!  هل أراد إن يثبت محبته للإمام الكاظم (ع) بهذا الحديث؟!

ثم إنَّ «التوريث» المذكور في الآية 32 من سورة فاطر، بمعناه الذي أوضحناه في الفقرة الثانية من فصل «الإرث في القرآن»، لا يمكن قَصْرُهُ بداهةً على الأئِمَّة. لذا فما أراد رواة الكُلَيْنِيّ إثباته بهذا الحديث لم يتحقق، ولم يستفد أولئك الرواة من وضعهم هذا الحديث سوى فضح أنفسهم!



([1]) لقد عرَّفنا بحاله في الصفحة 542 من هذا الكتاب.  

([2])   عرَّفنا بـ«سَلَمَة بن الخطاب» في الصفحة  638، وبـ«عبد الله بن القاسم» في الصفحة 567، وبـ«المُفَضَّل بن عُمَر» في الصفحة 212 فما بعد في هذا الكتاب.

([3]) راجعوا الصفحات 420 -426 من هذا الكتاب.