184. بَابُ أَنَّ الْإِمَامَ (ع) يَعْرِفُ الْإِمَامَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنَّ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها فِيهِمْ (ع) نَزَلَتْ

يشتمل هذا الباب على سبعة أحاديث. ضعَّف المَجْلِسِيّ الأحاديث 1 و2 و4 و6 منها واعتبر الحديث 3 مجهولاً، وفي رأينا الحديثُ 3 ضعيفٌ أيضاً لوجود «محمد بن الفُضَيْل» الكذَّاب و«الحسين بن سعيد» الغالي في سنده. واعتبر كلا المَجْلِسِيُّ والبِهْبُودِيُّ أن الحديثين 5 و7 صحيحين. ولكن في نظرنا لا يمكن  الوثوق بالحديث 7 لوجود «البرقي» في سنده.

لقد خَدَعَتْ أحاديثُ هذا الباب - ونظائرها الكثيرة في كتبنا - عدداً كبيراً من  المسلمين وأوقعت بينهم وبين سائر المسلمين العداوة والبغضاء والخصومة والجدل. وقد ألف أخونا الفاضل المرحوم الأستاذ حيدر علي قلمداران كتاباً مفيداً بعنوان «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] بهدف محاربة التفرقة الطائفية التي وقعت بين المسلمين وبهدف دراسة الأحاديث المتعلقة بالإمامة المنصوصة ونقدها، وقد كتبتُ عدداً من الحواشي عليه ذكرتُ فيها بعض الموضوعات، ولكن لما كان مسؤولو البلاد الحاليين لا يرغبون بيقظة الناس ووعيهم، لم يسمحوا حتى الآن بنشر ذلك الكتاب كي لا يدرك المسلمون، لاسيَّما الشعب الإيراني، كَذِبَ أحاديث النصَّ على الأئِمَّة وكَذِبَ الصحف المختلفة التي اُدُّعِيَ أنَّ النبيَّ تركها في هذا المجال. لذلك فإني مضطرٌ، رغم ضعف حالي الشديد وشيخوختي والأمراض التي أعاني منها وآثار السِّجْن، أن أبين بعض الأمور، وأدعو اللهَ تعالى أن يُيَسِّر أسباب نشر كتاب «شاهراهِ اتِّحاد» لأن ذلك سيكون له قطعاً أثرٌ كبيرٌ جداً في تنوير أفكار الشيعة. إنه ولي التوفيق.

ß الحديث 1 - راويه الأول يُدعَى «بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعِجْلِيُّ». وهو رجل يعتقد بتحريف القرآن (كما ذكرنا ذلك من قبل، راجع ص 450)، وحديثه هنا يدل أيضاً على وقوع التحريف في القرآن! وللأسف روى الكُلَيْنِيّ حديثه باسم الآثار الصحيحة عن الصادِقِين!

في هذا الحديث ينقل «بُرَيْدٌ الْعِجْلِيُّ» الأحمق عن الإمام (ع) أنه قرأ الآية 59 من سور النساء على النحو التالي: (فَإِنْ خِفْتُمْ تَنَازُعاً فِي أَمْرٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)! وادَّعى الراوي أن الإمام قال بعدها: (كَذَا نَزَلَتْ)!!  وقال المجلسي في شرح هذا الحديث: "فالظاهر أنه كان في قرآنهم -عليهم السلام- هكذا فأسقطه عثمان!!"([1]).‏

لما رأى واضعوا هذا الحديث أن الآية المذكورة من سورة النساء لا تفي بغرضهم؛ سعوا من خلال تحريف الآية إلى القول بأنه لا بد من الرجوع في موارد النزاع وحالات الاختلاف إلى «أولي الأمر» إضافة إلى الرجوع إلى الله ورسوله. وبما أنه من الواجب طاعة «أولي الأمر» فيمكن إذاً الرجوع إليهم في حالات بروز الاختلاف، وبما أن طاعة «أولي الأمر» لا بد أن تكون طاعة مطلقة لا نقاش فيها فهم إذاً معصومون، وبما أنهم معصومون فهم ليسوا سوى الأئِمَّة الاثني‌عشر!!

وأقول: في هذا الاستدلال عدة ادِّعاءات كلها باطلة:

أولاً: ادعاء وقوع التحريف في القرآن الذي لا يحتاج إبطاله إلى توضيح، وقد قرأ عليٌّ (ع) -في نهج البلاغة (الخطبة 125 والرسالة 53)- الآية 59 من سورة النساء على نحو متطابق مع القرآن ولم يضف جملة «إلى أولي الأمر منكم» إلى آخر الآية كما فعل راوي هذا الحديث، ورغم أن عليّاً (ع) نفسه كان المصداق الأتم والأكمل لـ«أولي الأمر» ولكنه لأجل رفع الخلاف الذي نشب بينه وأصحابه من جهة ومعاوية وجنده في الجهة المقابلة، لم يقل ارجعوا إلي أنا المعصوم في أمر التنازع بل قَبِل بحكم القرآن والسنة ورضي أن يرجع طرفا النزاع، الذي كان هو أحدهما، إلى كتاب الله وسنة رسوله([2]). فمن يحب علياً بصدق ويقبل كلامه عليه أن يرد حديث الكُلَيْنِيّ ويعتبره كذباً. من هذا يَتَبَـيَّنُ أن رواة الكُلَيْنِيّ الكذابين لم يكونوا يهتمون بكلمات عليٍّ (ع)!

ثانياً: لقد ذكرنا سابقاً تفسير عليٍّ (ع) للآية 59 من سورة النساء (راجعوا الصفحات 367-368 و 411-412 من هذا الكتاب)، ولا نُكَرِّر ذلك هنا، بل نذكر أن كلمة «أولي الأمر» استُخْدِمَت في القرآن مرَّتين كلاهما في سورة النساء. مَرَّةً استخدمت مع ضمير «مِنْكُمْ» ومَرَّةً مع ضمير «مِنْهُمْ» والمقصود بالضميرين كما هو واضح المؤمنون المعاصرون للنبي ولا علاقة للضميرين بالإمام المعصوم، إضافة إلى ذلك لم يكن عشرة من الأئِمَّة الاثني عشر ولاة أمور كي يأمر الله بالرجوع إلى «أولي الأمر» بوصفهم أولئك الأئِمَّة. ثم كما قلنا من قبل عين عليٌّ (ع) مالكاً الأشتر والياً على مصر وقال مخاطباً المصريين: "فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ" (نهج البلاغة، الرسالة 38).

ثالثاً: يدَّعي «بُرَيد» أن الإمام قال: "وَكَيْفَ يَأْمُرُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَيُرَخِّصُ فِي مُنَازَعَتِهِمْ"؟

ونحن نقول إن الإمام لم يقل ذلك قطعاً لأنه كما ذكرنا في تفسير الآية (في الصفحة 411-412) تختلف طاعة «أولي الأمر» عن طاعة الله ورسوله بأن طاعة أولي الأمر ليست طاعة مطلقة بل مشروطة ومنوطة بعدم مخالفتهم للكتاب والسنة. وعَلَيْهِ فالأمر بطاعة «أولي الأمر» متعلقٌ بحالة عدم مخالفة أوامرهم للشريعة، والترخيص في منازعتهم متعلقٌ بحالة مخالفة أوامرهم للكتاب والسنة. ولا شك أن الإمام يعلم هذه المسألة أفضل من الآخرين.

رابعاً: لا يخفى أن المَجْلِسِيّ ذكر بشأن الآية 59 من سورة النساء، التي وردت في هذا الحديث بصورة مغايرة لما نقرؤه في القرآن الكريم، احتمالاً آخر وهو أن يكون قصد الإمام تفسير الآية!!

ولما تكلَّمنا في مقدمة الباب 165 عن هذه المسألة بالتفصيل، نحيل القراء إلى ذلك الموضع من الكتاب تجنباً للتكرار، ونذكر هنا فقط أنه لو كان المقصود من عبارة «كَذَا نَزَلَتْ» بيان معنى الآية وتفسيرها ففي هذه الحالة نكون قد اعترفنا بشكل غير مباشر بأن الآية بصورتها الحالية في القرآن الكريم لا تعطي المعنى الذي يهدف الإمام إليه، وأنه إذا لم يَفهم المسلمون هذا المعنى من الآية فلا ذنب لهم في ذلك، وهذا في الواقع توهين كبير للقرآن الكريم واتّهام له بالعجز عن بيان مقصوده بنحو واضح كما ينبغي!

ومن الواضح تماماً بالطبع أن توجيه المَجْلِسِيّ ومقلديه ضعيفٌ تماماً وخاطئٌ لأنه لو كان قصد الإمام بيان معنى الآية لما كان هناك من حاجة لقوله «كَذَا نَزَلَتْ» ونظائر هذا التعبير. 

ß الأحاديث 2 و3 و4 - بصرف النظر عن ضعف السند، فإن الإشكال الأساسي في هذه الأحاديث هو ما أشار إليه أخونا الفاضل الأستاذ قلمداران، بقوله: "إنهم  يقومون بتجميد آيات القرآن الكريمة التي نزلت لهداية عامة أهل الدنيا وتربيتهم، بقصرها على مورد محدَّدٍ بعينه! فمثلاً قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء/58] هو إحدى الآيات التشريعية والتربوية في القرآن المجيد التي يجب على الناس جميعهم العمل بها، وهو أمرٌ بأداء الأمانات إلى أهلها الذي يُعَدُّ من أهم الفرائض في شريعة الإسلام، وتستند عظمة الإسلام إلى مثل هذه الآيات. لكن أمثال هذه الأحاديث تقول إن المراد من الآية: "أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامُ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ وَلَا يَخُصَّ بِهَا غَيْرَهُ!!" وكأنه لا توجد أمانة في الدنيا إلَّا الإمامة التي يجب أن يعهد بها الإمام إلى الإمام من بعده!!

لنفرض أن الأمر كذلك فما علاقة الناس (غير الإمام) بهذا الأمر حتى يتلوا تلك الآية؟! فالإمام فقط عليه أن يعلم أن عليه أن يؤدي الأمانة إلى الإمام التالي([3])، ولا شك أن الإمام لا يخون الأمانة، وبالنتيجة فلم تكن هناك ضرورة لنزول هذه الآية.

حقاً، إنّه مما يدعو للتساؤل: لماذا ذكر الله في كتاب هداية البشر كلمة «الأمانة»، ثمّ أرسل إماماً ليقول للناس إن المقصود من الأمانة هو «الإمامة» وأن يسلِّم كلُّ إمام «الإمامةَ» إلى من بعده! ألم يكن من الأفضل أن يذكر الله كلمة «الإمامة» صراحةً إتماماً للحجَّة ورفعاً للإبهام والشك؟ أليس هذا أكثر تلاؤماً مع لطف الله ورحمته بعباده؟

ß الأحاديث 5 و6 و7 - اُدُّعِيَ في هذه الأحاديث أنَّه: "لَا يَمُوتُ الْإِمَامُ حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ فَيُوصِيَ إِلَيْهِ!!".

فنقول: أولاً: إن مثل هذه الأحاديث تُكَذِّب أحاديث أخرى كحديث لوح جابر الذي يقول إن أسماء جميع الأئِمَّة كانت مذكورة في لوح سماوي كان عند الأئِمَّة، في هذه الحالة لم تكن هناك حاجة أن يخبر الله تعالى كلَّ إمام من هو الإمام مِن بعده لأن المفروض أن الأئِمَّة كانوا يعلمون من قبل أسامي جميع الأئِمَّة الاثني عشر إذ رأوها في لوح جابر!

ثانياً: هذه الأحاديث تخالف القرآن الكريم ونهج البلاغة وإجماع المسلمين لأن القرآن يقول إنه ليس للناس بعد الرسل حجة (النساء/165)، وعليٌّ (ع) أيضاً يقول عن النبيِّ J: "فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ". (نهج البلاغة، الخطبة 133)، فلن يوحي اللهُ إلى أحدٍ بعد النبيJ، أو يُعَلِّمَه بشكل مباشر.

ثالثاً: إن قيل إن هذا الأمر يتحقَّق عن طريق الإلهام، قلنا ينبغي أن نعلم أنّ نصب شخص بمنصب الإمامة الإلهية أهمّ من أن يتحقَّق بمجرَّد الإلهام، لأن كل شخص يمكنه أن يدّعي الإلهام!



([1])   المَجْلِسِيّ، مرآة العقول، ج 3، ص 181.  (المُتَرْجِمُ)

([2]) إن قبول الإمام علي (ع) لتحكيم الحكمين كان عملاً صحيحاً تماماً ومشروعاً، أما تصرّف الحكمين بشكل خاطئ فلا علاقة له أبداً بالإمام، لأنه أراد في البداية أن يعين «ابن عباس» حكماً من طرفه لكونه فرداً عالماً بالقرآن وواعياً، ولكن أصحابه مع الأسف لم يقبلوا بذلك كما لم يقبلوا بمالك الأشتر المرشح الثاني الذي رشحه الإمام ليكون حكماً من طرفه، وأصرّوا على أن يكون أبو موسى الأشعري هو الحَكَم من قبل الإمام. ولم يكن أبو موسى فرداً ذكياً وبصيراً، أو على الأقل لم يكن بمستوى الحَكَم الذي عينه جيش معاوية والذي كان سياسياً محنَّكاً وداهية ذي تجربة. إضافة إلى ذلك فإن الإمام (ع) قال: "فَإِنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ ويُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ وإِحْيَاؤُهُ الاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وإِمَاتَتُهُ الافْتِرَاقُ عَنْهُ فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ وإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا" (نهج البلاغة، الخطبة 127). وبناءً عليه كان لابد على الحكمين أن يستندوا إلى آيات القرآن ويستدلوا بها وبسنّة النبيّ القطعيّة وعلى هذا الأساس يتناظرون ويتحاجُّون، كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى/10]. ويُفهَم من الآية 35 من سورة النساء أيضاً أن الإسلام يوافق على التحاكم إلى حكمين عند بروز الاختلافات بشرط أن لا يخالفا الكتاب والسنة. ولكن للأسف لم يحكم الحكمان طبقاً للقرآن والسنة بل عملا برأيهما الشخصي! وإلا فإن قبول التحكيم لم يكن أمراً خاطئاً، وقد حكَّم رسول الله أيضاً سعداً في مصير أسرى غزوة «بني قريظة».

([3])   حيدر علي قلمداران، ارمغان آسمان [هدية السماء]، ص 194 - 195.