203. بَابُ الْإِشَارَةِ وَالنَّصِّ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي

مُقَدِّمَة: اعلم أن إحدى مشاكل الخرافيين ومُصَنِّعي الأئِمَّة أنه كان لدى الإمام الرضا (ع) ابنٌ واحدٌ فقط كان له من العمر عند وفاة أبيه ثمان سنوات! لذا تفرق محبو ذلك الإمام الكريم بعد وفاته إلى عدة فرق: فذهب بعضهم إلى القول بإمامة أخي الإمام الرضا أي «أحمد بن موسى» -المعروف في إيران باسم «شاهچراخ»-، وتوقَّف فريق آخر على الإمام الرضا نفسه([1])، و..... كانت مشكلتهم أنهم كانوا يقولون لابد أن يكون الإمام بالغاً، في حين كان ابن الإمام الرضا لا يزال صغيراً لم يبلغ سن البلوغ.  وكانوا يقولون: لابد أن يكون الإمام عالماً، في حين أن ذلك الطفل لم يجد الفرصة للتعلُّم بعد. والمشاكل ذاتها تنطبق أيضاً على الإمام علي بن محمد الهادي.

والمشكلة الأخرى لمثيري الفُرْقَة بين المسلمين أن حضرة الجواد (ع) تزوج في ما بعد من «أم الفضل» ابنة المأمون العباسي وصار صهراً له. فكان عسيراً على الذين يريدون أن يصوروا أن المأمون العباسي والإمام الجواد كانا عدويين أحدهم للآخر، أن يهضموا عمل حضرة الجواد (ع) هذا. والمعضلة الأخرى أن ذلك الإمام -أي الإمام الجواد- توفي في سن الشباب وله من العمر خمس وعشرين سنة فقط في حين أن أكبر أبنائه كان لا يزال في التاسعة من عمره!

لذلك قام مُصَنِّعو الأئِمَّة المفرقون بين المسلمين بوضع أحاديث لحل المشكلة الأولى واخترعوا للإمام علماً لَدُنِّيَّاً وأثبتوا له العلم بالغيب وكرامات عجيبة([2]) وشبهوا الإمام الجواد بحضرة عيسى u! ولحل المشكلة الثانية ادَّعوا أنَّ ابنة المأمون العباسي كانت جاسوسة له في منزل الإمام وقالوا -دون دليل- إن «المعتصم» دس السم للإمام بواسطة زوجته «أم الفضل»!

إن بطلان توجيه المشكلة الأولى واضح. فالأحاديث التي تقول إن الإمام الرضا (ع) كان يخبر عن أمورٍ من الغيب، كقوله: "وَاللهِ لَا تَمْضِي الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَرْزُقَنِيَ اللهُ وَلَداً ذَكَراً"! أو التي تنسب إلى الإمام الجواد أنه كان يعرف ما في قلوب الآخرين ونيتهم، أحاديث باطلةٌ قطعاً، كما بينا ذلك في فصل «علم الغيب والمعجزات والكرامات في القرآن»، وذلك لأنها تخالف القرآن الكريم الذي قال: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل/65]. وقال أيضاً:  ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ [لقمان/34]، فهذا العلم خاصٌّ بذات الباري تعالى.

ثم إنكم لا تعتبرون القياس حجة في أصول العقائد، فلماذا تقيسون في الحديثين 10 و13 من هذا الباب، الإمام الجوادَ على حضرة المسيح -عليه آلاف التحية والسلام-؟ في حين أن عيسى (ع) كان نبياً وقد أنطقه الله تعالى في المهد -كما جاء في القرآن- تصديقاً لكونه نبياً مرسلاً من عند الله، ودفاعاً عن الصديقة الطاهرة حضرة مريم عليها السلام، ورفعاً للتهمة التي اتُّهِمت بها، أما حضرة الجواد فلم يكن نبياً ولم تُتَّهم أمُّه، إضافةً إلى ذلك فإن عيسى (ع) بعد أن تكلّم في المهد لم يتكلّم بعد ذلك حتى صار كهلاً و بدأ بالكلام كنبيٍّ عن دين الله وعن المسائل المتعلقة بالنبوَّة وأخذ على عاتقه مهمة إرشاد الناس (آل عمران/46 والمائدة/110). أما أنتم فتقولون إن إمامة حضرة الجواد تواصلت منذ أن كان عمره ثمان سنوات وحتى وفاته!

إن رسولَ الله J لم يَنَل النبوَّةَ حتى بلغ سنَّ الأربعين، ولم يكن يعلم شيئاً حتى يوحى إليه.  فبأي دليلٍ تقولون إن من لم يكن يوحى إليه -إذ لا يوحى إلى طفل ذي ثلاث سنوات أو ثمان سنوات- ومن كان لا يزال غير مكلف بالأحكام الشرعية ولم يُحَصِّل العلم، كان يعلم معارف الشريعة كلِّها وكان يجب على الأمة جميعها اتِّباعُهُ؟! هل ادَّعَى حضرة عيسى (ع) أنه كان يعلم في طفولته علوم الشريعة ومسائلها جميعاً وأن على عباد الله أن يتبعوه وهو طفل!

ولا يمكن قياس حضرة الجواد والهادي على حضرة يحيى -سلام الله عليه- لأن الله عرَّف بذلك النبي الذي كان استثناءً وكان يتعلق بالأمم السابقة، تعريفاً واضحاً وصريحاً في القرآن، ففي هذه الحالة كيف لم يُشِر أدْنَى إشارة في كتابه إلى حضرة الجواد والهادي اللذَيْن تتوقَّف عليهما هداية الأمة في المستقبل؟!([3]) وكيف يمكن بيان المسائل الاعتقادية بمثل هذه القياسات الواهية؟

علاوةً على ذلك لو وقعت مثل تلك الواقعة والمعجزة الكبيرة (كالتي يذكرها الحديث 7 في الباب 179 من الكافي ونظائره) في مدن ذلك الزمن التي لم يكن عدد سكانها كبيراً، لاشتهرت قطعاً بين الناس وتداولتها الألسن، لكننا نرى أنه لم ينقلها سوى رواة الكُلَيْنِيّ معلومي الحال ونظائرهم! فهل يبين اللهُ في كتابه القضايا الإيمانية والدينية التي عليها مدار النجاة والهلاك وتوجب دخول الجنة أم يترك بيان ذلك لأمثال رواة الكُلَيْنِيّ؟!

ومن الطريف أن نعلم أن الإمام الجواد الذي نصبه رواة الكُلَيْنِيّ في منصب الإمامة وله من العمر ثمان سنوات لم يكن هو ذاته -طبقاً لما يرويه الكُلَيْنِيّ في الحديث 3 من الباب 131 من الكافي- يقبل بمثل هذه المسألة بشأن ابنه «علي الهادي» الذي كان له تسع سنوات من العمر، بل "جَعَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْمُسَاوِرِ قَائِماً عَلَى تَرِكَتِهِ مِنَ الضِّيَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَالرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ [ابنه] عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ" [الهادي سن التكليف]! فهل يمكن أن يعتبر الإمام أن ابنه الذي لم يبلغ سن التكليف بَعْد غيرُ صالحٍ لإدارة أمواله والإشراف على تَرِكَتِهِ، ولكنَّهُ يعتبره صالحاً لإرشاد الأمة وهدايتها؟!! (فتدبَّر جدَّاً).

وبطلان توجيه المشكلة الثانية واضحٌ جداً، فليس لديكم أي دليل سوى الادعاء المحض على أن حضرة الجواد لم يخطب «أم الفضل» برغبته ولم يتزوجها رغبةً بها. ثانياً: إن صحَّ ما تقولون، فلماذا لم يطلقها الإمام الجواد بعد وفاة المأمون؟  أمَّا عن قتل ذلك الإمام الكريم بواسطة زوجته فليس على ذلك أي دليل صحيح سوى ادعاء أفراد كذَّابين، لذلك قال الشيخ المفيد: "قيل إنه مضى مسموماً ولم يثبت بذلك عندي خبرٌ فأشهد به"([4])، كما لم يُشِرْ الشيخ المفيد أي إشارة إلى قتل الإمام الهادي وشهادته بل قال: "وأقام أبو الحسن (ع) مدّة مقامه بِـ«سُرَّ مَنْ رَأى» مُكَرَّمَاً في ظاهرة حاله"([5]). كما قال الشيخ المفيد أيضاً في كتابه «تصحيح الاعتقاد»:

"فأمّا ما ذكره أبو جعفر - رحمه الله - من مضيّ نبيّنا والأئمَّة - عليهم السلام - بالسم والقتل، فمنه ما ثبت، ومنه ما لم يثبت، والمقطوع به أن أمير المؤمنين والحسن والحسين - عليهم السلام - خرجوا من الدنيا بالقتل ولم يَمُتْ أحدهم حتف أنفه، وممَّن مضى بعدهم مسموماً موسى بن جعفر - عليه السلام - وَيَقْوَى في النفس أمر الرضا - عليه السلام - وإن كان فيه شك، فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنهم سُمُّوا أو اغتيلوا أو قُتِلوا صبراً، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف، وليس إلى تيقنه سبيل"([6]).

ولم يشر الشيخ الطوسي أيضاً في كتابه «تهذيب الأحكام» إلى قتل حضرات الجواد والهادي والعسكري -عليهما السلام-([7]).

بعد هذه المقدمة نقول: جاء في بابنا هذا - الباب 130 من الكافي - 14 حديثاً، اعتبر المَجْلِسِيّ الأحاديث 1 و5 و6 و7 و8 و9 و11 منها ضعيفةً والأحاديث 4 و12 و13 و14 مجهولةً والأحاديث 2 و3 و10 صحيحةً. أما الأستاذ البِهْبُودِيّ فلم يُصحِّح من أحاديث هذا الباب سوى الأحاديث 2 و3 و10 فقط.

ß الحديث 1 - كما قلنا ضعيف وساقط من الاعتبار.

ß الحديث 2 - خبر آحاد وليس فيه دلالة على النص.

ß الحديث 3 - يرويه «مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى» -الذي عدَّهُ الشيخ الطوسي من الضعفاء- ويقول إن حضرة الجواد قال له: "يَا أَبَا عَلِيٍّ! ارْتَفَعَ الشَّكُّ، مَا لِأَبِي غَيْرِي". ونقول ما من مُنْكِرٍ لهذا الادِّعاء بالطبع، ولكن هذا لا يدلُّ على النصِّ الإلهيِّ على الإمام.

ß الحديثان 4 و7 - سند الحديثين في غاية الضعف وراويهما «الحسين بن قِيَامَا» الذي صرَّح الكليني أنه كان «واقفياً».

وبقية أحاديث هذا الباب -باستثناء الحديث العاشر- لم يُصَحِّحْها المَجْلِسِيّ ولا البِهْبُودِيّ. ورواتها أشخاص من أمثال «محمد بن علي» (الأحاديث 6 و7 و8 و9) و«محمد بن جمهور» (الحديث 11)، و«علي بن محمد القاساني» (الحديث 14) وجميعهم ضعفاء وكذَّابون، أو من أمثال «جعفر بن يحيى» (الحديث 4) و«محمد بن أحمد النهدي» و«محمد بن خلاد الصيقل» (الحديث 12) و«الْخَيْرَانِيِّ» (الحديث 13) وجميعهم مجهولون!!

ß الحديث 10 - اثنان من رواته هما «مُحَمَّدُ بن يحيى» و«البرقي» اللذَين بيَّنا أحوالهما في هذا الكتاب([8]). والراوي الأول للحديث هو «صفوان بن يحيى» ([9]). وهو رجل ليس لأحاديثه وضعٌ جيدٌ والأحاديث التي أثنت عليه أثنت أيضاً على الكذاب المشهور «مُحَمَّدِ بن سِنَان»!! (رجال الكِشِّيّ، ص423-424)، ومن الطبيعي أن لا يوثَقُ بمثل هذا الثناء إطلاقاً، لأنه من المقطوع به أنه لا يمكن للإمام أن يعرب عن رضاه عن شخص مثل «مُحَمَّدِ بن سِنَان» الكذاب وأمثاله.

ومن المثير أن نعلم أن الكُلَيْنِيّ كرَّر هذا الحديث الذي يقول إن حضرة المسيح (ع) بُعِثَ في سن الثالثة من عمره مرَّةً ثانيةً في الحديث 2 من الباب 42 ولكنه قال هناك إن عيسى (ع) بُعِثَ وكان له أقل من ثلاث سنوات! والأعجب من ذلك أنه اعتبر في الحديث الأول من الباب 148 أن بعثة حضرة عيسى (ع) وقعت في سن السابعة من عمره!

تذكير: أورد الشيخ المفيد في الجزء الثاني من كتابه «الإرشاد» الأحاديث 1 و4 و5 و7 و8 و9 و13، إضافةً إلى الحديثين 2 و10 في الصفحة 277 فما بعد. وقد بيَّنَّا أن الأحاديث الأخيرة كلها ضعيفة أو مجهولة.



([1])   للاطِّلاع على آراء الشيعة بعد الإمام الرضا (ع) راجعوا كتاب «فرق الشيعة» للحسن بن موسى النوبختيّ، وكتاب «المقالات والفرق» لسعد بن عبد الله الأشعري القُمِّيّ.

([2])   من قبيل ما جاء في الحديث 7 من الباب 179 الذي نقدناه في الصفحتين 146-147 من الكتاب الحالي.

([3])   نُذَكِّرُ أنَّ نِزَاعَنَا مع الكُلَيْنِيّ هنا ليس حول «إمكانية» هذا الموضوع [أي النطق وامتلاك العلم والحكمة في الطفولة]، بل حول «وقوعه وتحقُّقه» في حالة ابن الإمام الرضا وحفيده الطفلين.

([4])   الإرشاد، ج 2، ص259.

([5])   الإرشاد، ج 2، ص311.

([6])   الشيخ المفيد، تصحيح الاعتقاد، ص 131 - 132.

([7]) ولكن المشايخ في زماننا لا يملون القول في الإذاعات والصحف إن جميع الأئِمَّة إما مقتول أو  شهيد ليثيروا بذلك عواطف العامة.

([8])   للتعرُّف على أحوال هذين الراويين راجعوا فهرس الرواة في آخر الكتاب.

([9])   للتعرُّف على أحواله راجعوا الصفحات 297 و 378 من الكتاب الحالي.