211. بَابُ مَا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ دَعْوَى الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ فِي أَمْرِ الْإِمَامَةِ

إن أحاديث هذا الباب فاضحة إلى درجة تغني عن دراسة أسانيدها فالكذب يطفح من كل جوانبها. واحسرتاه! على الوقت الذي ينفقه الإنسان في قراءة مثل هذه القصص! ولا شك أن أعداء الإسلام والمنحرفين لفّقوا هذه القصص ليخدعوا بها العوام ثم جاء الكُلَيْنِيّ فجمعها في كتابه مع الأسف وأشعل بذلك نار العداوة والاختلاف والفرقة بين المسلمين! ولذلك واجتناباً لتضييع وقت القراء لن ندرس أحاديث هذا الباب واحداً واحداً بل سنكتفي بالإشارة المجملة إليها.

جاء في هذا الباب 19 حديثاً اعتبر المَجْلِسِيّ السند الأول للحديث الأول مجهولاً وسنده الثاني ضعيفاً، واعتبر الأحاديث 2 و4 و6 و11 و12 و14 و17 و18 و19 ضعيفةً والأحاديث 3 و8 و10 و15 و16 مجهولةً والحديثين 7 و9 مجهولين أو ضعيفين، والحديث 5 صحيحاً والحديث 13 مُوَثَّقَاً. أما الأستاذ البِهْبُودِيّ فلم يُصحِّح إلا الحديثين 10 و3 فقط واعتبر سائر أحاديث هذا الباب غير صحيحة.

في الحديث الأول وُجِّه اتِّهامٌ إلى طلحة والزبير ونفخ في نار الاختلاف. رغم أن طلحة والزبير خالفا علياً (ع)، لكن كيف يمكن لعليٍّ الذي لم يلعن جيش معاوية أن يلعن هذين الشخصين -مع أنهما خلافاً لمعاوية، قدما للإسلام قبل فتح مكة خدمات جليلة- في حين أن الزبير أدرك خطأه قبل وقوع الاشتباك بين الجيشين في معركة الجمل وتنحى جانباً وكذلك لم يقاتل طلحةُ عَلِيَّاً (ع) وخرج من ميدان المعركة فقُتِل. (راجعوا كتب التاريخ المعتبرة) لكن رواة الكُلَيْنِيّ الماكرين لم يذكروا إلا معارضة طلحة والزبير لعليٍّ u وامتنعوا عن ذكر بقية الأحداث!

في الحديث الثاني تم الافتراء على أمير المؤمنين علي u  أنه قال مرَّتين لمن لم يسلِّم عليه بإمرة المؤمنين "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيَّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ!!".

في الأحاديث الثالث والرابع والخامس عشر التي لها راوٍ مشترك هو «علي بن محمد بن إبراهيم» تم افتراء قصة مضحكة جاء فيها أن امرأةً تُدعَى «حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةِ» سألت أمير المؤمنين علي u: "مَا دَلَالَةُ الْإِمَامَةِ يَرْحَمُكَ اللهُ؟".

وبدلاً من أن يستند الإمام إلى حديث الغدير أجابها قائلاً:

 "ائْتِينِي بِتِلْكِ الْحَصَاةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَصَاةٍ، قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَطَبَعَ لِي فِيهَا بِخَاتَمِهِ ثُمَّ قَالَ لِي يَا حَبَابَةُ إِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ الْإِمَامَةَ فَقَدَرَ أَنْ يَطْبَعَ كَمَا رَأَيْتِ فَاعْلَمِي أَنَّهُ إِمَامٌ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ وَالْإِمَامُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْ‏ءٌ يُرِيدُهُ. قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى قُبِضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ u فَجِئْتُ إِلَى الْحَسَنِ u وَهُوَ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ u وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ: يَا حَبَابَةُ الْوَالِبِيَّةُ! فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا مَوْلَايَ. فَقَالَ: هَاتِي مَا مَعَكِ. قَالَت فَأَعْطَيْتُهُ فَطَبَعَ فِيهَا كَمَا طَبَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ u".

وهكذا تذكرُ المرأة في قصتها أنها أتت بعد مدةٍ الإمامَ الحُسَيْنَ (ع) فطبع لها في الحصاة ثم أتت بعده حضرةَ السجَّاد وَقَدْ بَلَغَ بِيَ الْكِبَرُ إِلَى أَنْ أُرْعِشْتُ وَأَنَا أَعُدُّ يَوْمَئِذٍ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَأَيْتُهُ رَاكِعاً وَسَاجِداً وَمَشْغُولًا بِالْعِبَادَةِ فَيَئِسْتُ مِنَ الدَّلَالَةِ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِالسَّبَّابَةِ فَعَادَ إِلَيَّ شَبَابِي قَالَتْ ... ثُمَّ قَالَ لِي: هَاتِي مَا مَعَكِ فَأَعْطَيْتُهُ الْحَصَاةَ فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ u فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ u فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَىu فَطَبَعَ لِي فِيهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ الرِّضَا u فَطَبَعَ لِي فِيهَا، وَعَاشَتْ حَبَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ...".

الآن لكم أن تحسبوا كم عمَّرت هذه المرأة؟

ومن التناقضات في هذه القصَّة أنه جاء في الحديثين الأولين أنَّ كلّ! واحدٍ من الأئِمَّة طَبَعَ في موضعٍ ما من الْحَصَاةِ ذاتها التي طبع فيها حضرة أمير المؤمنين علي u، أمَّا في الحديث الخامس عشر فجاء أن النبيَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى حَصَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَفَرَكَهَا بِإِصْبَعِهِ فَجَعَلَهَا شِبْهَ الدَّقِيقِ ثُمَّ عَجَنَهَا ثُمَّ طَبَعَهَا بِخَاتَمِهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ فَعَلَ فِعْلِي هَذَا فَهُوَ وَصِيِّي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي..." ثم فعل كل واحد من الأئِمَّة الأمر ذاته أي أخذ حصاةً جديدةً من الأرض وفعل كما فعل النبيJ!

وفي الحديثين 3 و4 بدأت عملية الطبع في الحصاة من أمير المؤمنين (ع) أما في الحديث 15 فبدأت من النبي J! وفي الحديث 3 كان اسم المرأة السائلة: «حَبَابَةَ الْوَالِبِيَّةِ»، أما في الحديث 4 فجاء أن اسمها: «أُمَّ غَانِمٍ»، وفي الحديث 15 ذُكِرَ أن اسمها: «أُمَّ أَسْلَمَ»!!

وجاء في الحديث 3 أن أمير المؤمنين علي u "قال لِبَيَّاعِي الْجِرِّيِّ وَالْمَارْمَاهِي وَالزِّمَّارِ [وهي أسماك لا فلس لها]: يَا بَيَّاعِي مُسُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُنْدِ بَنِي مَرْوَانَ! فَقَامَ إِلَيْهِ فُرَاتُ بْنُ أَحْنَفَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا جُنْدُ بَنِي مَرْوَانَ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَقْوَامٌ حَلَقُوا اللِّحَى وَفَتَلُوا الشَّوَارِبَ فَمُسِخُوا!".

أقول: إن هذا الكلام  النيِّر الساطع (!!) ينبغي تدريسه في كليَّات علم الأحياء في أوروبا وأمريكا بوصفه اكتشافاً علمياً كبيراً توصَّل إليه الكُلَيْنِيّ ومشايخه. وقد جاء مثل هذا الكلام في الحديث 6 أيضاً([1]).

ß الحديث 5 - يقول إن اللهَ أنطقَ الْحَجَرَ الأسودَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْوَصِيَّةَ وَالْإِمَامَةَ بَعْدَ الْحُسَيْنِ u إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (حضرة السجَّاد) وأنه إمام مفترض الطاعة!

ونقول: لماذا لم يُظْهِر الإمامُ السجَّادُ هذه المعجزةَ في ملأ عام من الناس، ولم يعلم بها سوى رواةُ الكُلَيْنِيّ المجروحون؟ ألم يظلم الإمام السجاد جميعَ الذين لم يكونوا يعتبرونه إماماً مفترض الطاعة عندما لم يعلن هذه المعجزة أمامهم؟ وبالمناسبة فقد كتب جناب الأستاذ «قلمداران» أمراً مفيدة في كتابه «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 238، الفقرة الثالثة فما بعد) تجدر مطالعتها.

ونذكِّر هنا فقط أن الذي يُستَنْبَطُ من الآثار المعتبرة أن حضرة سيد الشهداء - سلام الله عليه - لم يُشِرْ أيَّة إشارة إلى كونه إماماً منصوصاً عليه مِنَ الله، ولم يكن يعتبر نفسه ولا ابنه حضرة السجَّاد إمامين منصوبين من الله ومفترضَيْ الطاعة، بل قال الإمام الحسين (ع) مخاطباً أهل الكوفة الذين دعوه إلى قيادة المسلمين وإمامتهم: "فَلَعَمْرِي مَا الإمامُ إلا العاملُ بالكتابِ والقَائمُ بالقِسْطِ الدائنُ بِدِيْنِ الحَقِّ والسلام."([2]).

كما لم يدَّعِ حضرة السجَّاد أبداً الإمامة ولم يعتبر نفسه إماماً منصوباً مِنْ قِبَلِ الله، ولذلك اضطرَّ دُعاةُ التفرقة الطائفية بين المسلمين إلى خداع العوام بوضع قصص كالتي جاءت في الحديث الخامس من هذا الباب ونظائره.

ß الحديث 7 - ذكر أخونا الفاضل المرحوم «قلمداران» في كتابه «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 250) أن هذا الحديث رواه - إضافةً إلى الكُلَيْنِيّ في «الكافي» - القطب الراوندي في «الخرائج» والكِشِّيُّ في رجاله والصفَّار في «بصائر الدرجات» والمسعودي في «إثبات الوصيَّة»، ويدلُّ على أنَّ خواص أصحاب الأئِمَّة لم يكونوا يعرفون الإمام بعد حضرة الصادق u، ولم يصل أيُّ نصٍّ دالٍّ على إمامة إمام بعد الصادق، لا إلى عامة الناس فحسب بل حتى لم يصِلْ إلى خواص أصحاب الإمام الصادق u.

في هذا الحديث جاء أن هشامَ بنَ سالمٍ (برفقة صاحب الطاق) سأل الإمام الكاظم (ع): جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَنْتَ هُوَ؟ فقَالَ الإمام:  لَا مَا أَقُولُ ذَلِكَ! ومن الواضح أنه لا يمكن التحجُّج بعذر التقيَّة لأن السائلَيْن كانا من خوصِّ أصحاب أبيه الصادق وهما هِشَامُ بْنُ سَالِمٍ و«محمد بن النعمان» المعروف بمؤمن الطاق، وكان حضرة الكاظم يعرفهما جيداً ورآهما مراراً مع أبيه.

ß الحديثان 8 و9 - أما في الحديثين الثامن والتاسع فجاء أن حضرة الكاظم وحضرة الرضا - عليهما السلام - أجابا من سألهما ذلك السؤال: "أَنَا هُوَ". بل صنعا معجزة له إثباتاً لصحة قولهما! فيذكر الحديث الثامن أن الإمام الكاظم قال لمن سأله عن إمامته: "اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أُمِّ غَيْلَانَ فَقُلْ لَهَا يَقُولُ لَكِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: أَقْبِلِي قَالَ فَأَتَيْتُهَا فَرَأَيْتُهَا وَاللهِ تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدّاً حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهَا فَرَجَعَتْ!!".

وكانت هذه المعجزة باهرة ومفحمة إلى درجة أن السائل - كما جاء في آخر الحديث - "أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ لَزِمَ الصَّمْتَ وَالْعِبَادَةَ فَكَانَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ!". أي بدلاً من أن يصبح السائل - بعد رؤيته تلك  المعجزة - من الدعاة إلى إمامة الكاظم، صمت ولم يُخْبِرْ أحداً عن تلك الواقعة! في حين أنه ذاته - حسب الحديث - قال للإمام: "فَشَيْ‏ءٌ أَسْتَدِلُّ بِهِ؟ [على إمامتك] ". وصدق من قال: حَبْلُ الكَذِبِ قَصِيْرٌ.

وفي الحديث التاسع أن الإمام الرضا (ع) كَانَ فِي يَدِهِ عَصًا فَنَطَقَتْ وَقَالَتْ إِنَّ مَوْلَايَ إِمَامُ هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ الْحُجَّةُ!!

ونسأل: لماذا لم تنطق عصا رسول الله J؟! ولماذا لم يظهر الإمام تلك المعجزة أمام سائر الناس.



([1])   أليس في نِسْبَةِ مثل هذا الأقاويل إلى حضرة عليٍّ (ع) الذي كان مفخرة عالم الإسلام، عداوة لذلك الإمام الجليل؟ هل كان الكُلَيْنِيّ الذي نسب هذه التُرَّهات والأباطيل إلى ذلك الإمام محبّاً له فعلاً؟

([2])   الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 183 (ط القديمة)، أو ج 2، ص 39، من ط الجديدة. (المُتَرْجِمُ)