110. بَابُ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْحُجَّةِ

يشتمل هذا الباب على خمسة أحاديث، صحَّح الأستاذ البِهْبُودِيُّ منها الحديث الخامس فقط. واعتبر المَجْلِسِيُّ الحديثين 1 و3 مجهولين، والحديث 4 مرسلاً، والحديث 2 بمنزلة الصحيح، والحديث 5 مُوَثَّقَاً بمنزلة الصحيح.

ß 136الحديث 1 - سنده مجهول 137لوجود «الْعَبَّاسِ بْنِ عُمَرَ الْفُقَيْمِيِّ» المجهول في سنده.  في هذا الحديث يسأل زنديقٌ لا يؤمن بالنبوة الإمامَ الصادقَ u عن الدليل على إثبات لزوم الأنبياء والرسل، فيجيبه الإمام قائلاً إنه لابُدَّ من إرسال الرسل: "لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللهِ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ".

رغم أن الإمام حسب هذا الحديث لم يُشِرْ أدنى إشارة إلى الإمام المنصوب مِنْ قِبَلِ الله، إلا أن المَجْلِسِيّ حاول في «مرآة العقول» أن يستخرج من هذه الكلمات وجود الأوصياء والأئمة الإلهيين! وهذا العمل لا يجوز إذ ينطبق عليه «تفسير الكلام بما لا يرضى به صاحبه»، لأن الإمام ذكر تلك الكلمات لإثبات الرسل، ولم يعتبر الأوصياء والأئمة داخلين في هذا الموضوع.

والقرآن الكريم أيضاً اعتبر الأنبياء فقط حجةً، ولم يعتبر الآخرين وكتبهم حجةً؛ كما في سورة (النساء/145). وقال عليٌّ كما ذكرنا مراراً: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ". (نهج البلاغة، الخطبة 91). وقال أيضاً: "بَعَثَ اللهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الإعْذَارِ إِلَيْهِمْ". (نهج البلاغة، الخطبة 144).

وعلى كل حال لو أراد الكُلَيْنِيّ وأمثاله أن يُعَرِّفوا لنا حجةً معصومةً ومنصوباً من عند الله غير النبي o فعليهم أن يستندوا في ذلك إلى القرآن الكريم، لأن موضوع الإمامة الإلهية جزءٌ من أصول الدين. ولكنهم إذْ لم يجدوا شيئاً حول هذا الموضوع في كتاب الله، اضطروا لإثبات أمر الإمامة الإلهية من طريق الروايات! هذا في حين أنهم هم أنفسهم يعلمون أن أخبار الآحاد لا تفيد علماً ولا حجةً.

ß الحديث 2 - لقد تكلَّمنا على هذا الحديث في الصفحة 434 من هذا الكتاب فلا نعيد هنا ما ذكرناه هناك.

ß الحديث 3 -138كما قلنا لم يصحح المَجْلِسِيّ ولا البهبودي هذا الحديث، فأحد رواته ذلك الشخص فَطَحيُّ المذهب الذي يُدعى «يونس بن يعقوب» وهو أحد رواة أحاديث الباب 165 الفاضح من الكافي أيضاً. وقرائن الكذب والوضع في رواياته واضحةٌ بينةٌ. ومن جملة ذلك أنه ادعى في الحديث الثاني من الباب 67من الكافي([1]) أن الإمام الباقر (ع) قال إن المراد من قوله تعالى: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا﴾ [القمر/42]: "يَعْنِي الْأَوْصِيَاءَ كُلَّهُمْ"!! ولأجل أن نفضح كذب الراوي نذكر الآية التي جاءت قبل تلك الآية والآية بعدها: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر/41-42].

كما تلاحظون، أولاً: سورة القمر مكية، ولم يكن موضوع الإمامة والولاية مطروحاً أصلاً في مكة. ثانياً: الآية تتعلق بقوم فرعون ولا علاقة لها أبداً بالأوصياء أو الأئمة، ولكن جناب «يُونُسَ بْنَ يَعْقُوبَ» يقول إنها تتعلق بالأئمة!!

139نعم، إن مثل هذا الشخص يدعي هنا في الرواية الثالثة من هذا الباب أن «هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ» قال لـ «عَمْرو بن عُبَيْد»: "فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وَإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مَرْوَانَ فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ وَيَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ وَيَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْهِ شَكَّهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ وَيُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْهِ حَيْرَتَكَ وَشَكَّكَ؟ فَسَكَتَ [عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ] وَلَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً ".

لكن الإجابة عن سؤال هشام سهلةٌ وواضحةٌ. ونقول نحن نيابةً عن «عَمْرو بن عُبَيْد» ردَّاً على أسئلة «هشام»:

أولاً: ألم تقرأ القرآن يا هشام؟ ألم تعلم أن الله تعالى جعل للناس إماماً دائماً لا يغيب ولا يمرض ولا يموت وهو حاضر في الليل والنهار وفي كل وقت وآن للإجابة عن كل إشكال، ولا يسكن في مدينة واحدة بل هو في متناول جميع الناس في كل مكان، وقد سماه الله بنفسه إماماً (هود/17، والأحقاف/12)؟ ويتبين من كلامك أيضاً أنك جاهل بأقوال الأئمَّة عليهم السلام، وإلا لعلمت أن الجد الكريم للإمام الصادق أي حضرة أمير المؤمنين علي u اعتبر القرآن إمامه وقال: "إني أَشْهَدُ....... أنَّ الكتابَ الذي أُنْزِلَ إليه إمامي"([2]). وعندما سُئِلَ من نسأل من بعدك، وعلى من نعتمد فَقَالَ: "اسْتَفْتِحُوا كِتَابَ اللهِ فَإِنَّهُ إِمَامٌ مُشْفِقٌ وَهَادٍ مُرْشِدٌ وَوَاعِظٌ نَاصِحٌ وَدَلِيلٌ يُؤَدِّي إِلَى جَنَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"([3]).

140نعم، كان ذلك الإمام الهمام يرغِّب الناس بأن يجعلوا القرآنَ إمامَهم ويقول: "قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وإِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ ويَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ". (نهج البلاغة، الخطبة87).

141و الإمام الصادق u نفسه قال أيضاً: "فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ..... وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ وَهُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ وَتَحْصِيل..."([4]). وروى حضرة العسكري (ع) نقلاً عن رسول اللهِ J أنه قال عن القرآن: "... وَمَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ وَمُعَوَّلَهُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ آوَاهُ اللهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ...‏‏"([5]).

ثانياً: لقد عرَّف القرآنُ الكريمُ لنا إماماً آخر أيضاً، وهو النبيُّ الأكرم o وسنته، لأن القرآن اعتبر الأنبياء أئمَّةً (الأنبياء/73).

ثالثاً: لقد أرشدنا القرآن إلى ما يتوجب علينا فعله لرفع الشك والريب وحل الاختلافات فقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى/10].

وقد قال أمير المؤمنين عليٌّ u حول هذه الآية: "فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، والرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ". (نهج البلاغة، الرسالة 53). ولم يُعَرِّف الإمامُ لنا مرجعاً آخر.

رابعاً: يجب أن يكون دينُنا دينَ عليِّ بن أبي طالب ودينَ جعفر الصادق -عليهما السلام- عينَه. فإذا اعتبر أولئك الأئمَّةُ الكرامُ القرآنَ إمامَهم وعرفوه للناس بوصفه الإمام المرشد، فمعنى ذلك أننا لو كنا صادقين في رغبتنا باتِّباع الأئمَّة فعلينا أن نتبع القرآن ونجعله إمامنا، ولا يجوز أن يكون لنا إمام غير إمامهم. ولو رجعنا إلى سيرة أولئك الأئمَّة الكرام للاحظنا أنَّ أمير المؤمنين عليَّاً u الذي كان على خلاف مع معاوية جعل القرآنَ المرجعَ في حلِّ ذلك الاختلاف فقال: "إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ وإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ، هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ ولا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ، ولَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.

 142وقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/59]، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ ورَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ،  فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وإِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ o فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وأَوْلاهُمْ بِهَا" (نهج البلاغة، الخطبة 125).

فكما نلاحظ: أولاً: اعتبر عليٌ (ع) القرآن قابلاً للفهم. وثانياً: اعتبره حَكَمَاً ورافعاً للاختلاف بين المسلمين([6]).

خامساً: نقول لهشام بن الحكم: لقد أحسنتَ صنعاً إذْ لم تعرِّف بنفسك على أنك من أصحاب الإمام الصادق u، لأن الناس لو ظنوا أن أشخاصاً مثلك هم من جلساء حضرة الإمام الصادق u لأدَّى ذلك إلى إساءة الظن به. ما علاقة أناس أمثالك بصادق آل محمد o؟! نأمل أن لا يُخدَع الناسُ بأصدقائك - من قبيل يونس بن يعقوب - الذي كان يقوم في أغلب الأحوال بالدعاية لك، ويعرفك بوصفك عالماً بالإسلام!

ß الحديث 4 - يقول المَجْلِسِيّ إنه مُرْسَلٌ. لكن يجب أن ننتبه إلى أن الحديث الذي في سنده «يُونُسُ بْنُ يَعْقُوبَ» الذي تعرفنا عليه في الرواية السابقة، حديث ضعيف غير مقبول حتى لو لم يكن مرسلاً. في الاحتمال الغالب كان «يُونُسُ بْنُ يَعْقُوبَ» هذا هو الذي أوكِلَتْ إليه مهمَّة الدعاية لـ« هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ» وأن يعرفه للشيعة على أنه من العلماء الفضلاء من أصحاب الإمام الصادق u وأنه شخص مؤَيَّد من قبل الإمام! وكما سوف نرى فإن علامات الكذب في هذا الحديث واضحة. يُكرِّر «يُونُسُ» هنا نقلاً عن «هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ» الأمور التي قرأناها في الحديث السابق كي يخترع للقرآن قَيِّماً وحجةً. لقد ادَّعى أن الإمام الصادق u كان يعلم الغيب، وأنَّه "يُخْبِرُنَا بِأَخْبَارِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وِرَاثَةً عَنْ أَبٍ عَنْ جَدٍّ!!" ويدَّعي أن الإمام الصادق أخبر الرجل الشامي عن الأمور التي حدثت له في سفره إلى المدينة واحدةً واحدةً!!

143ونحن نيابةً عن الرجل الشامي نقول لهشام بن الحكم: إنك ادَّعيتَ أن الإمام يعلم الغيب وأنه يخبر بأخبار سماوية، فاعلم أنه:

أولاً: ادِّعاؤك هذا مخالفٌ للقرآن الكريم([7]).

ثانياً: كلامُك يُبَيِّن أن لا عِلْم لك بأقوال الأئمَّة وإلا لعرفت أنَّ جَدَّ ذلك الإمام الكريم حضرةَ الإمام عليٍّ (ع) قال مخاطباً رسول الله J: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ". (نهج البلاغة، الخطبة 235).

ثالثاً: إن علم الغيب ليس شيئاً يورَثُ، بل يجب أن يُمْنَحَ للعبد مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالى، ولإثبات أن الله منح هذا العلم بالغيب للأئمَّة، عليك إقامة الدليل على ذلك، فكلامك ليس سوى ادعاء لم يقم عليه الدليل!

رابعاً: إنْ قلتَ إنَّ ذلك الإمام لم يكن عالماً بالغيب بنفسه، بل تلقَّى الأخبار الغيبية وسمعها من آبائه عن أجداده واحداً تلو الآخر عن رسول الله J، فنقول: إن الإخبار بما جرى للرجل الشامي في سفره لم يكن قطعاً من الأخبار المنقولة عن النبي J!

والعيب الآخر في متن الحديث أن هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ سأل الرجلَ الشاميَّ: يَا هَذَا! أَرَبُّكَ أَنْظَرُ لِخَلْقِهِ أَمْ خَلْقُهُ لِأَنْفُسِهِمْ؟ فَقَالَ الشَّامِيُّ: بَلْ رَبِّي أَنْظَرُ لِخَلْقِهِ. قَالَ: فَفَعَلَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ مَاذَا؟ قَالَ: أَقَامَ لَهُمْ حُجَّةً وَدَلِيلًا كَيْلَا يَتَشَتَّتُوا أَوْ يَخْتَلِفُوا يَتَأَلَّفُهُمْ وَيُقِيمُ أَوَدَهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِفَرْضِ رَبِّهِمْ. قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ‏ o. قَالَ هِشَامٌ: فَبَعْدَ رَسُولِ اللهِ‏ o؟ قَالَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ هِشَامٌ: فَهَلْ نَفَعَنَا الْيَوْمَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي رَفْعِ الِاخْتِلَافِ عَنَّا؟ [لاحظوا كيف يريد أن يقول إن القرآن والسنة ليس فيهما اليوم فائدة كثيرة للمسلمين، ولا يمكنهما رفع الاختلاف من بينهم]. قَالَ الشَّامِيُّ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ اخْتَلَفْنَا أَنَا وَأَنْتَ وَصِرْتَ إِلَيْنَا مِنَ الشَّامِ فِي مُخَالَفَتِنَا إِيَّاكَ قَالَ فَسَكَتَ الشَّامِيُّ.

وفي الختام يسألُ الشَّامِيُّ هشامَ بنَ الحكم: ففي هذا الوقت من الذي يستطيع إزالة الخلاف بين المسلمين؟ فيجيبُ هِشَامٌ: هَذَا الْقَاعِدُ [يشير إلى الإمام الصادق u] الَّذِي تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ وَيُخْبِرُنَا بِأَخْبَارِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وِرَاثَةً عَنْ أَبٍ عَنْ جَدٍّ...".

إن ضعف كلام «هشام» واضح للغاية، ونحن - نيابةً عن الرجل الشامي - نسأل هشامَ بنَ الحَكَمِ: لماذا لم يرتفع الاختلاف بين أتباع الإمام بل انقسموا هم أيضاً إلى مذاهب ومسالك متعددة؟ إنْ قلتَ إن سبب ذلك أن أتباع الأئمة ولَّوْا أظهُرَهُم للإمام ولم يتَّبعوه اتِّباعاً كاملاً وصحيحاً، فإننا نعيد لك هذا الجواب ذاته ونقول: إن القرآن والسنة أيضاً مزيلان للاختلاف ولكن المُتَكَسِّبِين بالدين المفرِّقين بين المسلمين لم يرجعوا إلى القرآن رجوعاً خالصاً دون ميول وأهواء خاصة، ولم يراعوا في الرجوع إليه قواعد الاستنباط من كتاب الله مراعاةً تامةً. وثانياً: عليك أن تنتبه إلى أن قولنا بأن القرآن وسنة النبي J مزيلان للاختلاف مستندٌ ونابعٌ من اتِّباعُنا لكلام الله الذي نصّ على هذا في (سورة النساء، الآية 59)([8])، في حين أنك تدعي - خلافاً لهذا النص القرآني - أن القرآن غير كاف لإزالة الاختلاف، وأن الإمام هو الذي يرفع الاختلاف بين الأمة!([9]).

تذكير: أورد الشيخ المفيد هذا الحديث في كتابه: «الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد» (ج 2، ص 193). ونسأل القارئ المحترم: هل يمكن إثبات شيء بحديث مرسل؟

ß الحديث 5 - راويه الأول «عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ» أحد رواة حديث نزل القرآن سبعة عشر ألف آية!!([10]) وإن كان المَجْلِسِيُّ يعتبر الحديثَ الذي يرويه أمثال هؤلاء الرواة بمنزلة الصحيح فهذا ليس مستغرباً منه، لكن الغريب هو اعتبار الأستاذ البِهْبُودِيّ هذا الحديث صحيحاً وإدراجه إياه في كتابه «صحيح الكافي»([11]) رغم اشتمال متنه على مغالطة واضحة!

في هذا الحديث يتحاور الشهيد الجليل ذي المقام الرفيع: «زيد بن علي بن الحسين بن علي بن  أبي طالب» - رحمه الله تعالى - مع «الأحول» - أي مؤمن الطاق - الذي سُمِّيَ أيضاً بشيطان الطاق، ويدعوه إلى التعاون معه والثورة على الظلم، فيجيبه الأحول قائلاً:

"إِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ لِـلَّهِ فِي الْأَرْضِ حُجَّةٌ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْكَ نَاجٍ وَالْخَارِجُ مَعَكَ هَالِكٌ، وَإِنْ لَا تَكُنْ لِـلَّهِ حُجَّةٌ فِي الْأَرْضِ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْكَ وَالْخَارِجُ مَعَكَ سَوَاءٌ! قَالَ فَقَالَ لِي [زيد بن علي]: يَا أَبَا جَعْفَرٍ! كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَ أَبِي [حشرة الإمام السجاد] عَلَى الْخِوَانِ فَيُلْقِمُنِي الْبَضْعَةَ السَّمِينَةَ وَيُبَرِّدُ لِيَ اللُّقْمَةَ الْحَارَّةَ حَتَّى تَبْرُدَ شَفَقَةً عَلَيَّ، وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَيَّ مِنْ حَرِّ النَّارِ؟! إِذاً أَخْبَرَكَ بِالدِّينِ وَلَمْ يُخْبِرْنِي بِهِ؟!"

وهنا يبدأ «الأحول» بالمغالطة فيقول:

"فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! مِنْ شَفَقَتِهِ عَلَيْكَ مِنْ حَرِّ النَّارِ لَمْ يُخْبِرْكَ خَافَ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقْبَلَهُ فَتَدْخُلَ النَّارَ وَأَخْبَرَنِي أَنَا فَإِنْ قَبِلْتُ نَجَوْتُ وَإِنْ لَمْ أَقْبَلْ لَمْ يُبَالِ أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ!! ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أَنْتُمْ أَفْضَلُ أَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: بَلِ الْأَنْبِيَاءُ. قُلْتُ: يَقُولُ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً، لِمَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ حَتَّى كَانُوا لَا يَكِيدُونَهُ وَلَكِنْ كَتَمَهُمْ ذَلِكَ، فَكَذَا أَبُوكَ كَتَمَكَ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَيْكَ! قَالَ فَقَالَ أَمَا وَاللهِ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ حَدَّثَنِي صَاحِبُكَ [أي الإمام الباقر (ع)] بِالْمَدِينَةِ أَنِّي أُقْتَلُ وَأُصْلَبُ بِالْكُنَاسَةِ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَصَحِيفَةً فِيهَا قَتْلِي وَصَلْبِي!".

ويُختَتَمُ الحوار بادِّعاء «الأحول» أن الإمام الصادق u أيّده فيما قاله لزيد بن عليٍّ ونص عبارته:

"فَحَجَجْتُ فَحَدَّثْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ u بِمَقَالَةِ زَيْدٍ وَمَا قُلْتُ لَهُ، فَقَالَ لِي: أَخَذْتَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ وَمِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ وَلَمْ تَتْرُكْ لَهُ مَسْلَكاً يَسْلُكُهُ!!"

يقول الكاتب: إن الإمام الصادق يعلم ضَعْفَ وتهافتَ كلام «الأحول» أكثر من أي شخص آخر، ولذلك فنحن لا نشك لحظة في أن الإمام الصادق u لم يؤيد الكلام المليء بالمغالطة الذي ساقه «الأحْوَل»، وذلك لما يلي:

أولاً: إن رؤيا يوسف u لم تكن من معارف الشرع وأحكامه، ولا أمراً يتعلق بعامة الناس كي يكون إظهاره واجباً، ولذلك فلم يكن هناك مانع شرعي من كتمانه، بعكس بيان دين الحق وإعلان حجة الله والتعريف به الذي هو أمر واجب.

ثانياً: طبقاً لقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء/214] كان من الواجب أنْ يُبَيِّنَ الإمامُ الحقيقةَ لأقربائه قبل أي أحد آخر، ويدعوهم إلى الحق ولا يكتمه عنهم.

ثالثاً: إن ادعاء «الأحْوَل» ادعاءٌ في غاية الخبث والأذى عندما يُصوِّر نفسَه أنه من أهل تقبُّل الحق خلافاً لزيد بن علي. إن قوله هذا سوء ظن بلا دليل بشخصية جليلة مثل «زيد بن علي»، وهو أمر مُحرَّم لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات/12].

لاحظوا أن «الأحْوَل» يتَّهم الشهيدَ جليلَ القدر الذي كان مِنْ أشدِّ الناس حرصاً على دين الله، والذي بَذَلَ روحَه رخيصةً في هذا السبيل، بأنه يأبى قبول الحقّ وأن أباه حضرة السجاد (ع) كان مطمئناً لقبولي أنا الحق أكثر منك، لذا عرَّفني بحجَّة الله ولم يعرِّفك به!! لقد قال «الأحول» غير المنصف والمُتَجَنِّي هذا الكلام عن شخص قال عنه الإمام الرضا (ع) - كما في كتاب «عيون أخبار الرضا» -: "فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ آلِ مُحَمَّدٍ J غَضِبَ لِـلَّهِ فَجَاهَدَ أَعْدَاءَهُ حَتَّى قُتِلَ فِي سَبِيلِه‏ِ"([12]).

رابعاً: والادعاء الخبيث والجارح الآخر لـ«الأحْوَل» أنه نسب إلى ذلك الرجل العظيم - أي: «زيد بن علي» - أنه عبَّر عن أخيه حضرة الباقر (ع) بكلمة «صاحبك» بدلاً من التعبير بكلمة «أخي» ليوهم أنه - أي الأحول - أقرب إلى الإمام الباقر من «زيد بن علي».

خامساً: من أوضح الأدلة على كذب هذا الحديث أن «الأحْوَل» أراد بشكل ضمني أن يُقنعنا من خلال كلام ذلك الشخص الجليل أي: «زيد بن علي» نفسه بإقراره بوجود صحيفة سماوية. ولكن - كما سوف نرى عند دراسة الباب 98 من الكافي ونقده - وجود مثل هذه الصحيفة السماوية وما يشبهها أمرٌ عارٍ عن الصحة تماماً وهو من أكاذيب وضَّاعي الحديث. (راجعوا تفصيل ذلك في موضعه من هذا الكتاب).

سادساً: نقول لـ«الأحْوَل» لو كنتَ صادقاً في ادعائك أن جناب «زيد بن علي» (رحمه الله) كان مؤمناً بوجود صحيفة سماوية تتضمن أخبار الغيب عند حضرة الباقر (ع)، فإن هذا يستلزم بالطبع أن يؤمن زيدٌ بالإمامة الإلهية لأخيه الباقر (ع)، وَمِنْ ثَمَّ، فكيف تقول إنه لو أُعلِنت له إمامة حضرة الباقر فلن يقبلها؟!!



([1])   وهو حديثٌ مرفوعٌ وضعيفٌ ولم يرَ صحَّته المجلسيُّ ولا البهبوديُّ.

([2]) الصحيفة العلوية، دعاؤه بعد تسليم الصلاة.

([3])   بحار الأنوار، كتاب العلم، ج 2، ص 300، ذيل الحديث 29.

([4])   أصول الكافي، ج 2، ص 599.  و وسائل الشيعة، (أبواب قراءة القرآن، الباب الثالث)، ج 4، ص 828، الحديث الثالث.

([5])   راجعوا المقدمة الأولى لـ«تفسير الصافي»، تأليف محسن فيض الكاشاني. أقول (المترجم): والحديث مَرْوِيٌ في التفسير المنسوب للحسن العسكري، ورواه عنه المجلسي في بحار الأنوار، ج 89، ص 32.

([6])   راجعوا الإجابات التي ذكرناها عن ادعاءات «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» في الصفحة 435 فما بعد من الكتاب الحالي.

([7])   راجعوا في هذا الموضوع ما ذكرناه في الصفحة 124فما بعد من  الكتاب الحالي.

([8]) أي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/59].

([9]) وراجعوا أيضاً ما ذكرناه من إجابات عن ادعاءات «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» في الصفحة 338فما بعد من هذا الكتاب.

([10])  وقد عرَّفْنا به في الصفحة 272فما بعد من الكتاب الحالي.

([11]) ينقل الكُلَيْنِيّ رواياتِ «أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى» عن أشخاصٍ من جملتهم «علي بن إبراهيم» - القائل بتحريف القرآن والذي لا تتمتع رواياته في الغالب بوضع حسن، وهذا في حد ذاته من أسباب الشك في صحة هذا الحديث.

([12])  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 249.