121. بحث في المُراد من ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ الذين أوجب الله طاعتهم

الآن حان الوقت للكلام على الآية 59 من سورة  النساء المباركة، ولكن قبل تحليل الآية من الضروري التذكير بأنه قد تم وضع أحاديث كثيرة في جوامعنا الحديثية على لسان أئمَّة أهل البيت تفيد أن المُرادَ من ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ الأئمَّةُ الاثنا عشر، ومن جملتها الحديثان 7 و 16 في الباب 66 من  أصول الكافي. لكن هذا القول - كما سوف نرى - لا يتناسب بأي شكل من  الأشكال مع تلك الآية القرآنية.

يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي([1]) الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾  [النساء/59]([2]).

كما هو مُلاحَظٌ، قدَّم الله تعالى في الآية طاعته وطاعة رسوله على طاعة أولي الأمر، إضافةً إلى تكراره فعل الأمر «أَطِيعُوا» قبل اسمه وقبل الرسول، وعدم تكراره لهذا الفعل قبل عبارة «أُولِي الأَمْرِ» بل اكتفى بعطفها على طاعة الرسول. وليس هذا ناجماً عن تعب الله - والعياذ بالله!! - من تكرار فعل الأمر ﴿أَطِيعُوا﴾ للمرة الثالثة أو نسيانه له، بل اللطيفة في عدم تكرار فعل الأمر هذا للمرة الثالثة هي بيان التفاوت بين رتبة طاعة «أُولِي الأَمْرِ» ورتبة طاعة المذكورين قبلهم أي الله ورسوله. وإلا لو كان الهدف من عدم تكرار فعل الأمر للمرة الثالثة مجرد تجنُّب التكرار للزم أن لا يُكَرِّرَ الله تعالى هذا الفعل للمرّة الثانية أيضاً قبل كلمة «الرَّسُوْلِ»، ويكتفي بربط المذكورين بعد كلمة «الله» أي «الرَّسُوْلِ» و«أُولِي الأَمْرِ» بفعل الأمر الأول بواسطة حرف العطف «الواو»، كي يتجنَّب التكرار. فالآية لم تجتنب التكرار في الواقع، بل سبب عدم ذكر فعل «أَطِيعُوا» قبل «أُولِي الأَمْرِ» إفهام أن طاعة «أُولِي الأَمْرِ» تابعة لطاعة الله ورسوله وأن طاعتهم ليست مستقلَّةً ومساويةً لطاعة المُطاعَيْنِ السابقَيْنِ، فطاعة «أُولِي الأَمْرِ» هي في ظل طاعة الله ورسوله وضمن حدودها، وتابعة لطاعتهما. وبعبارة أخرى لمَّا اعتَبَرَ الحقُّ تعالى طاعة الرسول J - الذي لا ينطق إلا بأمر الحق - من ناحية حرمة التنازع، عين طاعة الله، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء/80]، كرَّر تعالى - لإيجاب طاعة رسوله- فعلَ «أَطِيعُوا»، ولكنه تعالى لمَّا اعتبر طاعة «أُولِي الأَمْرِ» قابلة لحصول التنازع فيها، اجتنب ذكر فعل «أَطِيعُوا» قبلهم، وإلا فلو كان «أُولو الأَمْرِ» معصومين، وكانت طاعتهم كطاعة الرسول، لما كان هناك معنىً للتنازع معهم، لأن رسول الله J لا يجوز التنازع معه في الأمر والنهي، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾  [الأحزاب/36].

بناء على ذلك، يمكننا أن نفهم أنه لو صدر إلينا أمرٌ من «أُولِي الأَمْرِ» مغاير لطاعة الله ورسوله، لم تكن طاعة ذلك الأمر واجبةً بل كانت محرَّمةً، لأن إيجاب طاعة ذلك الأمر مع مخالفته لأمر الله ورسوله يستلزم التناقض، لأن الله تعالى يكون عندئذٍ قد نهى عن عصيانه من جهة، وأمر بطاعة أمرٍ مخالفٍ لأمره أي أمر بعصيانه من الجهة الأخرى!  والله الحكيم منزَّه عن التناقض.

إذن، كما قلنا، طاعة «أُولِي الأَمْرِ» تابعة لطاعة الله ورسوله J، وهي - في التسلسل العِلِّيّ - في طول طاعتهما. إضافةً إلى ذلك، فقد نهى الله في آيات أخرى بشكل مطلق عن طاعة من كان عمله مخالفاً لرضا الله([3]). وبالطبع لو عمل «أُولو الأَمْرِ» بما يخالف رضا الله، شَمِلَهُم ذلك النهي المطلق عن طاعتهم.

القيد الآخر لعبارة «أُولِي الأَمْرِ» هو كلمة «مِنْكُم» والتي تعني أن «أُولِي الأَمْرِ» يجب أن يكونوا من المؤمنين المُخاطَبين بالآية، لأن الآية بدأت بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومن الواضح تماماً أن المؤمنين غير المنافقين وغير أهل الكتاب والكفار، وقد جاءت صفات المؤمنين في آيات عديدة من القرآن([4]). فاستناداً إلى الآيات المذكورة لا تجوز طاعة كل فاسق وفاجر أو أن توكل إليهم ولاية أمر المسلمين، فمثل هؤلاء الأشخاص خارجون عن مفاد الآية.

والأهم من ذلك أن الله تعالى بيَّن المراد من قيد «مِنْكُم» بصراحة حين قال في سورة الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ...﴾ [الأنفال/75]؛ فالمنافقون وأهل الكتاب والكفَّار ليسوا من المؤمنين فلا يمكن أن يكون شخصٌ «وليَّ الأَمْر» إلا إذا كان  من المؤمنين المجاهدين.

وجاء في القسم الأخير من الآية قيد «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ» الذي يثبت إمكانية الاختلاف والتنازع مع «أُولِي الأَمْرِ»، وأنه في مثل هذه الحالة لا بد من الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي J الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ لحل النزاع، كما قال ذلك عليٌ (ع) في شرحه للآية (نهج البلاغة، الرسالة 53، والخطبة 125) ونص عبارته: "فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ والرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ".

من هنا فإن الآية لم تقل ارجعوا عند الاختلاف والتنازع إلى «أُولِي الأَمْرِ» ولم تقل لا يمكنكم أن تتنازعوا مع «أُولِي الأَمْرِ»، في حين أنه لو كان مصداق «أُولِي الأَمْرِ» هم الأئمَّة المعصومون المحدَّثون والمنصوبون مِنْ قِبَلِ الله، لكان التنازع معهم بمنزلة التنازع مع النبيّ وهو كفر وحرام. وبناء على ذلك، فإن «أُولِي الأَمْرِ» داخلون -كسائر المؤمنين- في جملة المخاطَبين بجملة «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ» وليسوا مرجعاً لحل الاختلاف والنزاع، بعكس الحال بالنسبة إلى الله ورسوله.

وقد جاءت كلمة «أُولِي الأَمْرِ» مرّةً ثانيةً في القرآن في الآية 83 من سورة النساء وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء/83].

يذمُّ اللهُ تعالى في هذه الآية الذين ينشرون الأخبار المثيرة للخوف أو الموجبة للاطمئنان ويذيعونها قبل أن يراجعوا في ذلك «أُولِي الأَمْرِ» (بصيغة الجمع) مِمَّا يُبَـيِّنُ أنه كان هناك زمنَ رسولِ اللهِ J أكثر من شخص تنطبق عليهم عبارة «أُولِي الأَمْرِ»، والواقع إن «أُولِي الأَمْرِ» في زمن رسول الله J كانوا أمراء السرايا وولاة الأمصار الذين كان النبي J يعيِّنُهُم، ولم يكونوا معصومين بالطبع، بل كانوا قابلين العزل، في حين أنهم لو كانوا معصومين لما كانوا قابلين للعزل.

والدليل الآخر الذي يثبت أن ليس المرادُ من «أُولِي الأَمْرِ» الأئمَّةَ الاثني عشر، هو أنه -حسب تفسيركم - لم يكن لهذه الآية زمنَ نزولها من مصداق سوى عليٍّ (ع)، في حين أن الخطاب في الآية وُجِّه إلى الجمع، واسم الجمع «أُولِي» أيضاً يقتضي شمول المؤمنين زمن الرسول، وشمول الآية لهم مُقَدَّمٌ على شمولها سائر الناس الآخرين، ولو لم يشملهم مثل هذا الخطاب لكانت مخاطبتهم به لغواً. وَمِنْ ثَمَّ فإن كلمة «مِنْكُم» يُراد بها المؤمنون المعاصرون للنبي الذين أمروا بطاعة «أُولِي الأَمْرِ» منهم -بشرط عدم تخطيهم للكتاب والسنة- وطبعاً فإن «أُولِي الأَمْرِ» لا يمكنهم أن يكونوا شخصاً واحداً أو يكونوا الأئمة غير الموجودين زمن الخطاب والذين سيأتون في المستقبل أو العلماء والسلاطين بعد رسول الله J بل يجب أن يكون هناك زمن نزول الآية أفراد من «أُولِي الأَمْرِ» من المؤمنين أنفسهم موجودون، حتى يصح خطابهم والكلام عنهم، ولم يكن هؤلاء سوى ولاة الأمصار وأمراء البلدان وقادة الجيوش في زمنه J.

استناداً إلى ما ذُكِر أعلاه، فإن المخاطَبين في الدرجة الأولى بجُمَل «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ» و«فَرُدُّوه» كانوا المؤمنين وأُولي الأَمْرِ من المؤمنين الموجودين زمن النبيّ J، بدليل أن عبارة «أُولِي الأَمْرِ» لم تذكر في المقطع الثاني من الآية([5]) بعد «فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ»، ولو كانوا غير مشمولين بخطاب «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ» و«فَرُدُّوه» لكانت الآية تقول قطعاً: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ وأُولِي الأَمْرِ) أي كانوا قد جُعِلوا مرجعاً أيضاً في حل الاختلاف، فعدم ذكرهم بحد ذاته دليل على أنهم ليسوا معصومين.

عندما نزلت هذه الآية أيضاً، لم يكن هناك للمسلمين أي إمامٍ من الأئمَّة الاثني عشر معروفاً بوصفه ومرجعاً واجب الطاعة في جميع شؤون الدين والدنيا، وبعد ذلك وبشهادة التاريخ لم يصل أولئك الأئمَّة إلى الإمارة والحكم (باستثناء عليٍّ u)، وحتى بعد النبي J، لم يعتبر المسلمون أبداً أعلى مقام في بلاد الإسلام، يعني مقام الخليفة، -بما في ذلك الخلفاء الراشدون- مقاماً مطلقاً واجب الطاعة بشكل مطلق، على نحو لا يمكن منازعته في شيء، أي فوق المُساءلة.

والإشكال الآخر أنه لو قصد من «أُولِي الأَمْرِ» الأئمَّةُ المعصومون الاثنا عشر، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنه لم تُذْكَرُ أي إشارة في الآية إلى نواب «أُولِي الأَمْرِ» هؤلاء، فإن نتيجة ذلك ستكون أن هذه الآية القرآنية الكريمة ستصبح بعد الإمام الحسن العسكري وحتى ظهور الإمام الثاني عشر وقيامه، بلا موضوع!! (هذا بمعزل عن أن ذلك الإمام الكريم وأجداده الأماجد الكرام، لم يصلوا إلى الحكم والسلطة سوى عليٍّ u).

وعندئذ فلنا أن نسأل: إلى حين ظهور الإمام، ما هو تكليفنا بالنسبة لهذه الآية، وبأي دليل يجب علينا أن نطيع أوامر أشخاص غير الأئمَّة الاثني عشر المذكورين؟

علاوة على ذلك فإننا نسأل أيضاً: هل كان أمراء الجيوش وَوُلاةُ البلدان زمن رسول الله J - في حال عدم تجاوزهم لحكم الكتاب والسنَّة - واجبي الطاعة أم لا؟ لو قلنا إن المسلمين في زمن النبي J لم يكونوا يعتبرون طاعة ولاتهم وأمرائهم واجبةً عليهم، أما كان ذلك يُؤدي إلى وقوع الفوضى والهرج والمرج؟ وإن قلتم: بل كان أولئك الأُمَرَاءُ والوُلَاةُ واجبي الطاعة، فإننا نسأل: تحت أي عنوان كانوا واجبي الطاعة؟ هل هناك عنوان سوى كونهم «ولاةً» و «أولياءَ الأمر» الذين أمر الله بطاعتهم؟ فهل كان الناس يعتبرونهم معصومين ويعتبرون كلامهم حجَّةً ومرجعاً في حل الاختلافات؟

إضافةً إلى ذلك فإن أمير المؤمنين عليّ u قال في رسالته إلى مالك الأشتر «حِيْنَ وَلّاهُ مِصْرَ»، -وهي الرسالة رقم 53 في نهج البلاغة- والتي لقَّبَهُ في أكثر من موضع منها بلقب «الوالي»:

"تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ..." ثم قال له في جملة أخرى: "وارْدُدْ إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ ويَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الأمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ... الآية﴾ [النساء/59]. فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ الأخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، والرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الأخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ...".

وبهذا اعتبر عليٌّ u «مالكَ الأشترَ» من مصاديق (أي ممن ينطبق عليه) "أُولِي الأمْرِ"، مع أن «مالك الأشتر» لم يكن لا إماماً معصوماً منصوباً منْ قِبَلِ الله، ولا سلطاناً وأمثال ذلك.



([1])   كلمة «أُولِي» جمعٌ، ليس لها مفرد من جنسها. [مثل كلمة النساء].

([2])   لقد قام المحقِّق الفاضل أخونا المجاهد المرحوم قلمداران (رحمه الله) بتحقيق عميق حول هذه الآية في كتابه «ارمغان آسمان» [هدية السماء]، من المفيد جداً مطالعته. و قمت أنا أيضاً  بتوضيح المُراد من عبارة «أُولِي الأَمْر» في تفسيري «تابشى از قرآن» [شُعَاعٌ من القرآن].

([3])   راجعوا حول هذه النقطة كتاب «شاهراه اتحاد» [طريق الاتِّحاد] ، ص 72 - 73.

([4])   مثل الآيات التسع الأولى من سورة المؤمنون، والآيات 36 حتى 39 من سورة الشورى، والآية 15 من سورة الحجرات، عديد من الآيات الأخرى.

([5])   أي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ﴾ الْآخِرِ  [النساء/59] .