10. طريقة دراستنا لكتاب «الكافي»

ليتَني كنتُ أستطيع أن أُحَقّق وأُمَحِّصَ مجلدات «الكافي» الثمانية جميعها خدمة لإخواني في الإيمان وأداء لواجبي الإسلامي، لكن وا أسفاه! فإن المرض والضعف اللذين يعاني جسمي منهما، وعدم الشعور بالأمن، وتشرّدي من مكان إلى آخر، وفقداني للكتب والمراجع الكافية، ووضعي الحالي، لا يساعدني على القيام بذلك لاسيما أنني أرى من الضروري أن أقوم بتنقيح وتهذيب مؤلفاتي الأخرى أيضاً، لذلك كما قلت في بداية الكتاب, سأكتفي - كما فعلت في التنقيح السابق لهذا الكتاب - بدراسة وتمحيص المجلَّد الأول من كتاب «الكافي» فقط، وأعتقد أن هذا القَدْرَ كافٍ كي يتعرَّف أهل التحقيق على قيمة كتاب الكُلَيْنِيّ: "الكافي"، ويستطيع القارئ نفسه أن يحقق في بقية أخبار الكافي على نفس المنوال والنهج الذي اتبعناه في نقد وتمحيص أخبار المجلَّد الأول.

بما أنني قَصَرْتُ عملي في هذا الكتاب على تمحيص أخبار المجلَّد الأول من «الكافي» فقط ولم أتكلم عن فروع الكافي إلا على نحو الاستطراد في بعض المواضع فقط، فإنني أرى من اللازم أن أُذكِّر هنا بنقطة مهمة بشأن الفروع، والتي لا تجوز الغفلة عنها، فعلى أهل التحقيق أن ينتبهوا إلى أن رواة أحاديث فروع الكافي هم ذات الرواة غير الموثوقين والكذابين والوضّاعين الذين افترَوا أخبار أصول الكافي وروَّجوا للشرك والخرافات باسم أصول العقائد ونفخوا في نار التفرقة المذهبية، وفي الواقع ظلموا الأئمَّة عليهم السلام بما افترَوه عليهم من أحاديث، وَمِنْ ثَمَّ فلا يمكن الاعتماد على منقولات مثل هؤلاء الأفراد، فعلى العلماء الطالبين للحق أن ينتبهوا إلى هذه الحقيقة عند الرجوع إلى أحاديث الفروع المرويَّة عنهم، خاصة في أمر الاستنباط والفتوى، وما لم يُحَقِّقُوا ويُدَقِّقوا بشكل كامل لا يجوز لهم أن يقبلوا منقولاتهم تسامحاً أو اعتماداً على حسن الظن الذي لا دليل عليه.

والأمر الآخر الذي غفل عنه كثير من العلماء هو قولهم إن الرواية الصحيحة هي تلك التي يكون راويها إمامياً وثقةً، وللأسف لم ينتبه هؤلاء العلماء إلى أن مجرد كون الراوي إمامياً وغير كاذب ليس كافياً، بل لابد أن يدققوا بشكل كامل بالأخبار المنقولة عن هذا الراوي ويفحصوها ليَرَوا: هل تتفق هذه الأخبار التي رُوِيَت عن طريق هذا الراوي مع القرآن والعقل أم لا؟  لأنَّ أحد الأدلة على ضعف الراوي في نظرنا، حتى لو لم يكن مُتَّهَماً بالكذب، هو روايته لأخبار خرافية. (فتأمل جداً).

ومن المناسب لهذا الموضوع أن أنقل هنا رأي أحد علماء الشيعة [المعاصرين] ([1]) في هذا المجال:

"وقد أَمْعَنَ القُصَّاصُ والوعَّاظُ في الكذب على الرسول J فنسبوا إليه وعوداً وأقوالاً في الزهد في الدنيا وفضل البلاء والفقر والمرض والجوع و[فضل وثواب] الأيام والساعات والأذكار والأدعية، وأسرفوا في عرضهم للمكافأة التي يلقاها الإنسان إذا صلى ركعتين في بعض الليالي أو الأيام، أو صام يوماً أو أكثر من بعض الشهور أو سعى لزيارة بعض الأولياء والأتقياء، فأعطوه على كل ركعة مئات القصور وآلاف الحور والولدان والأثاث المصنوع من الزبرجد والياقوت والمرجان، وعن كل يوم صامه أو خطوة مشاها إلى زيارة ولي أو عيادة مريض آلاف الحسنات وأسقطوا عنه آلاف السيئات، وكان له أجر ألف حاج وألف معتمر وثواب من صبر وأحسن كأيوب وأمثاله من النبيين والصديقين كما جاء في بعض المرويات، وفرشوا له طريق الجنة بالورود والرياحين حتى ولو لم يفعل بعد ذلك من الطاعات شيئاً، بل وحتى لو فعل المنكرات كما تصرح بذلك بعض مروياتهم!

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم [القُمِّيّ] أن الأمام جعفر بن محمد الصادق u قال: «مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمْعٌ مِثْلُ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْر!»([2]).......

وحتى لا يتسرب الشك إلى هذه الموضوعات وتبقى عنصراً مؤثراً على العامة تشدهم إلى تلك الحلقات التي كانت تملأ المساجد والنوادي وتوفر لهم الهبات والعطاء، فقد وضع القصاصون أحاديث لتدعيم مروياتهم وأساطيرهم وزيفوا لها الأسانيد التي تربطها بالنبيِّ J بأسلوب يوحي بصحتها، ويزف لهم البشائر بالحصول على تلك الدرجات التي وعدهم القصاصون بها، فرووا لهم أن الإمام u قال: "مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَهُ رَجَاءَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُعْطِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ رسول الله قاله"([3]). وأن النبيَّ J قال: "مَنْ حدَّث عنِّي حديثاً هو لِـلَّهِ رضاً فأنا قلتُهُ وبه أُرْسِلْتُ"([4])، إلى غير ذلك من المرويات بهذا المعنى، وقد أخذ بها الشيعة والسنة، واستخرج الشيعة منها قاعدة أضافوها إلى مدارك الأحكام وأصولها أطلقوا عليها "قاعدة التسامح في أدلة السنن"، مع العلم بأن أسانيدها لم تتوفر فيها شروط العمل بالرواية، لأن بينهم من هو متهم في دينه وبينهم من هو مجهول الحال إذا استثنينا رواية واحدة عدها بعض المحدثين من قسم الصحيح لأن الراوي لها من الممدوحين في كتب الرجال، مع العلم بأن مجرد ذلك لا يمنع من رد الرواية إذا كانت مخالفة لكتاب الله أو للخبر المقطوع بصدوره.

على أن هذا النوع من المرويات على تقدير صدوره فلابد وأن يكون المراد من البلوغ الذي نصَّت عليه هو البلوغ بالطرق التي تطمئن إليه النفس لا غيره.

وقد نصَّ كتابُ اللهِ على حرمة الكذب وتوعَّد الكاذبين بالعذاب والعقاب الشديد ولعنهم أكثر من مرة في مختلف المناسبات، ولم يستثن من ذلك الكذب في الطاعات والخيرات، كما وإن الرسول حينما توعَّد الكاذبين عليه ولعنهم كما جاء في قوله: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار"، لم يستثن هذا النوع من الكذب عليه، ولا يستطيع أحد أن يدعي بأن الكذب في الطاعات لا يُعَدُّ كذباً، وقد اعترف القصاص بأنهم يكذبون على الرسول J، وكان عذرهم في ذلك أنهم يكذبون له لا عليه!!

ومن الغريب أن الفقهاء قد عدُّوا الكذب من الكبائر ومع ذلك فقد تساهلوا في هذا النوع من الأحاديث المكذوبة، وأمعنوا في البحث عن أدلة الأحكام متناً وسنداً فضعَّفوا الحديث وأسقطوه لأقل شبهة في سنده أو متنه ولما جاؤوا إلى أحاديث الترغيب والتخويف والفضائل [التي يُقال لها اصطلاحاً: روايات السُّنَن] وقفوا إلى جانبها متجاهلين كل ما قرروه في أصولهم وفقههم لا لشيء إلا لأن القصاص والوعاظ قد رووا لهم عن الرسول والإمام أنهما قالا من بلغه ثواب على عمل ففعله أوتيه وإن لم يكن رسول الله قاله!

والأغرب من ذلك إن المتأخرين ممن ألف في أصول الفقه من علماء الشيعة قد أخذوا بهذه المرويات بدون تحقيق في مضامينها ولا تمحيص لأسانيدها وعلى أساسها قالوا: بأن المرويات المتعلقة بالسنن كالتي تجري على ألسنة الوعاظ وغيرهم سواء كانت من نوع المسانيد أو المراسيل يمكن إعطاء مضامينها حقه من الرجحان أو الاستحباب حتى ولو لم تكن صادرة عن المعصوم!! ......

ولكن الأخذ بها يتوقف على صدورها عن النبي أو الإمام (ع)، وقد ذكرنا أن أسانيدها لم تتوفر فيها الشروط المطلوبة وأنها من صنع القصاصين والوعاظ ليؤكدوا بها مروياتهم في الترغيب والترهيب التي يستدرُّون بها عطف الناس وهباتهم، وعلى تقدير صحتها فالبلوغ الذي أرشد النبيُّ أو الإمام إلى الأخذ به هو البلوغ الذي تطمئن إليه النفس كما ذكرنا، أقول ذلك في حين أني لا أستبعد بعض مرويات القصاصين والوعاظ وغير الموثوقين وإن لم تكن مستوفية للشروط المطلوبة في الراوي والرواية، إذا ليس كل ما يرويه غير الموثوق في دينه مكذوباً لجواز أن يصدق الكاذب أحياناً، ولكن الذي أدَّعيه أن الأخذ بجميع مروياتهم واعتبارها في مستوى الصحيح ولو من حيث ترتيب الآثار عليها كما هو المستفاد من أخبار " مَنْ بَلَغَهُ ..." مع العلم بأن أكثرها مكذوبة عليه أو مبالغ فيها بنحو لا يستسيغه العقل ولا يقره منطق الشرائع والأديان، جعلُها في هذا المستوى يُشَجِّعُ الكذبة والمرتزقة من الوعاظ على المتاجرة بالدين واستغلال المستضعفين، وفي الوقت ذاته ربما يَحْذَرُ السامع عن العمل ويبعث في نفسه روح الاتكال على الثواب الموعود به عندما يسمع أن الدمعة التي لا تزيد عن جناح بعوضة إذا خرجت من عينه حزناً على ما أصاب أهل البيت (ع) يغفر الله له بسببها جميع ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر كما جاء في رواية علي بن إبراهيم عن الإمام جعفر بن محمد u.

ومهما كان الحال فلا أكون مغالياً إذا قلت أن الكثير من المتدينين من عوام الشيعة والسنة يفعلون الكثير من المنكرات والمعاصي، ويعتقدون بأن زيارة الحسين u والبكاء أو التباكي عليه -كما جاء في بعض المرويات- والأعمال المأثورة في رمضان وغيره، توفر عليهم ممارسة الالتزام بالطاعات واجتناب الشهوات اعتماداً على مرويات الوعاظ والقصاصين وأحاديث " مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ عَلَى عَمَلٍ ".  ..............

إن القرآن الكريم الذي وضع أصول الإسلام وفروعه وحثَّ على الطاعات والأعمال الصالحات ووعد المطيعين والعاملين جنات فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولم يحدد أنواع تلك الملذات والخيرات، قد توعدهم في الوقت ذاته بالعقوبة الصارمة والعذاب الأليم، وصور لهم جهنم وأهوالها ومخاطرها كما صور لهم الجنة ونعيمها وخيراتها، وترك الإنسان بين اليأس والأمل حتى لا يترك ما عليه اتكالاً على عفوه ورحمته، ولا يقف مكتوف اليدين بمجرد أنه عصاه في بعض الأعمال يائساً من قبوله إذا رجع لطاعته، بل فتح له باب التوبة ومهد له طريق العودة ووعده أجراً عظيماً وجزاء كريماً.

[نعم] لقد ألْمَحَتْ بعضُ الآيات والنصوص عن الرسول والأئمة إلى أن الله سبحانه قد يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحات، ولكن لم يرد في آية من آيات الكتاب ولا في حديث صحيح عن الرسول أو الأئمة (ع) أن عملاً واحداً من أعمال الخير مهما كان نوعه يغفر الذنوب جميعها ولو كانت كزبد البحر وعدد الرمل والحصى كما جاء في أحاديث القصاصين التي نسبوها إلى الرسول والأئمة الهداة الميامين.

و[أساساً] هل يجوز على الرسول العظيم J أن يقول لابنته فاطمة سيدة النساء: اعملي يا فاطمة فلن أغنى عنك من الله شيئاً، ويقول في الوقت ذاته: لمن حضر معه وقعة بدر من المسلمين، اعملوا ما شئتم فإن الله قد غفر لكم؟! وهل يجوز على من قال: إن الحديث إذا لم يوافق العقل والكتاب فليس من أحاديثنا وهو مدسوس علينا، هل يجوز عليه أن يقول ذلك، ثم يخبر عن نساء الجنة بأن مقعد الواحدة منهن ميل في ميل، وإذا كان مقعدها يحتاج إلى هذه المساحة العريضة الواسعة، فيجب أن يبلغ طولها ضعفي هذه المساحة على أقل التقادير، ولابد وأن يخلق الله لهن رجالاً بهذا الطول والعرض، أو يحشر الله المؤمنين بغير أجسامهم التي كانوا بها في الدنيا ليتم التجانس بنيهما!!"([5]).  انتهى من كلام السيد هاشم معروف الحسني.

 

والآن حان الوقت كي نقوم في هذا الكتاب بالتعريف بعدد من رواة «الكافي» كي يتعرَّف عليهم القارئ ويفكِّر قليلاً في نفسه ويحكم هل من الصحيح أن يرهن آخرته وسعادته الأبدية وما سيجيب به الباري تعالى يوم القيامة بأخبار مثل هؤلاء الأفراد غير الموثوقين أم لا؟

وسوف تلاحظون أننا في هذا الكتاب الحاضر سنقوم، في أكثر الأبواب، بذكر رأي الباقِرَيْن: محمد باقر المجلسي ومحمد باقر البهبودي بشأن الأحاديث التي سنقوم بدراستها وتمحيصها كي نُطْلِع القراء على رأيهما، ثم سنقوم بنقد ودراسة الأحاديث وسنسعى أكثر إلى التحقيق في متونها وإلى مقارنة تلك المتون مع القرآن لنعرف مدى اتفاقها معه. ولَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلا بِالله الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.



([1]) هو الأستاذ الشيخ السيد هاشم معروف الحسني في كتابه الموضوعات في الأخبار والآثار.

([2])   المجلسي، بحار الأنوار، باب 34- ثواب البكاء على مصيبته و مصائب سائر الأئمة (ع)، 44، 278، نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم القمي. والحر العاملي، وسائل الشيعة‏، ج 12، ص 20 نقلاً عن كتاب الأخوان للصدوق. (المُتَرْجِمُ)

([3])   انظر: الكُلَيْنِيّ، الكافي، ج 2، ص 87. والمجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص 256 نقلاً عن ثواب الأعمال للصدوق، والمحاسن للبرقي. والحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص 81-82، نقلاً عن ابن بابويه (الشيخ الصدوق) وعن الكُلَيْنِيّ وعن ابن فهد الحلي في عدة الداعي وابن طاوس في الإقبال.

([4])   انظر الشيخ الصدوق، معاني الأخبار (ص 390)، ولفظه: " قال رسول الله (ص) : "فَمَا جَاءَكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ مُوَافِقٍ لِلْحَقِّ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ الْحَقَّ فَلَمْ أَقُلْهُ، وَلَنْ أَقُولَ إِلَّا الْحَقَّ".‏

([5])   هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الأخبار والآثار، ص 169 إلى 175.  والكلمات التي بين معقوفتين [] للسيد البرقعي بغية التوضيح. (المُتَرْجِمُ)