137. بحث مفصل حول المقصود من أهل الذكر ومن الأمر بسؤالهم في القرآن

علم أن رواة الكُلَيْنِيّ تلاعبوا في هذا الباب بمعاني عدة آيات من آيات القرآن الكريمة هي التالية:

1- ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾  [النحل/43]

2- ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف/44]

لقد حاول المسترزقين من التفرقة المذهبية بكل ما أوتوا من قدرة واستطاعة أن يستفيدوا على نحو مغلوط من الآيتين المذكورتين ويخدعوا العوام بذلك! ولذلك وقبل دراسة هذه الأحاديث ونقدها لا بد أنْ نقَدِّمَ بعضَ الإيضاحات حول هاتين الآيتين: 

أ) كلمةُ «الذِّكْر» في القرآن الكريم -إضافةً إلى الموارد التي استُخْدِمَتْ فيها بمعنى التذكُّر والتذكير ونظائرهما- أُطْلِقَتْ أيضاً على الكتب السماوية بما في ذلك «التوراة».

فمثلاً المراد من كلمة «الذِّكْر» في الآية 45 من سورة آل عمران، وفي الآيتين 6 و9 من سورة الحجر، وفي الآية 44 من سورة النحل، وفي الآية 50 من سورة الأنبياء، وفي الآية 51 من سورة القلم: «القرآن الكريم».

أما في آيات أخرى، ومن جملتها الآية الثانية في سورة الأنبياء فالمقصود من كلمة «الذِّكْر» -باتفاق الشيعة والسنة- الآيات الإلهية والكتب السماوية. وفي الآية 48 من السورة ذاتها قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء/48]، وقال ثانيةً في الآية 105 من السورة ذاتها: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء/105]، حيث المقصود من «الذِّكْر» في هاتين الآيتين: «التوراة».([1])

ب) صرَّح القرآن الكريم - إضافةً إلى ما بيَّنه من أنَّ النبيَّ J إنما بُعِث في «الأُمِّيِّين» أي في قوم لا يعلمون القراءة والكتابة، ولا علم لهم بالكتب السماوية [الجمعة/2] - صرَّح بأن قوم النبيِّ J قبل بعثته J لم يكن لهم معرفة بأخبار الأنبياء السابقين فقال: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا...﴾ [هود/49].

على ضوء ما ذكرنا أعلاه، من الواضح تماماً أن المنكرين كانوا يقولون - كما جاء في سورتي النحل والأنبياء وكلاهما مكيتان - ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟!﴾ [الأنبياء/3]، وكانوا ينتظرون أن تتنزَّل عليهم الملائكة مباشرةً وتعلّمهم مسائل الدين [النحل/33] وكانوا يقولون: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا([2])﴾ [الفرقان/7].

فقال القرآن ردّاً على هذا التحجُّج والاقتراحات: إن الإنسان مناسب ومقبول أكثر من غير الإنسان، ليكون أسوةً وقدوةً لسائر البشر، وقد كانت سنَّة الله في البشر دائماً أن يرسل لهم رسولاً من بينهم ومن مثل جنسهم، ولم يكن الأنبياء أبداً أفراداً استثنائيين لا يحتاجون إلى أكل الطعام أو لا يموتون.

يقول الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» ذيل تفسيره الآية 7 من سورة الأنبياء:

"«وَمَا أَرْسلْنَا قَبْلَك» يا محمد «إِلا رِجَالاً»: هذا جواب لقولهم ما هذا إلا بشر مثلكم، والمعنى لم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالاً من بني آدم «نُّوحِى إِلَيهِمْ» لا ملائكة، لأن الشكل إلى الشكل أميل وبه آنس وعنه أفهم ومن الأنفة منه أبعد".

ولهذا السبب بالذات يقول القرآن: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء/95] ويقول: ﴿وَمَا أَرْسلْنَا مِن قَبْلِك إِلا رِجَالاً نُّوحِى إِلَيهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل/43].

وقد قال الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» في تفسير الآية الأخيرة من سورة النحل:

"«فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» فيه أقوال (أحدها) أن المعنى بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم ... (وثانيها) أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب عن ابن عباس ومجاهد أي فاسألوا أهل التوراة والإنجيل. «إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ» يخاطب مشركي مكَّة وذلك أنهم كانوا يصدِّقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم لأنهم كانوا يكذِّبون النبيَّ J لشدَّة عداوتهم له"([3]).

ولكن لما وَجَدَ مقلِّدو الكُلَيْنِيّ والمجلسيّ أن هذا المعنى الواضح الصريح للآية الذي يتناسب مع الآيات التي قبلها وبعدها، لا يتفق مع أهوائهم وميولهم، تشبَّثوا بأنواع الإشكالات والحجج كي لا يقبلوا بهذا المعنى وقالوا:

إشكالهم الأول: ادَّعَوْا -دون دليل- أن مشركي مكة كانوا يعلمون أن الأنبياء السابقين كانوا كلهم بشراً، واستنتجوا أن المشركين لم يكونوا إذن بحاجة إلى دعوة القرآن لهم إلى سؤال أهل الكتاب ليطمئنُّوا ويعلموا أن الأنبياء السابقين لم يكونوا سوى بشر ورجالٍ مثلهم يوحى إليهم، بل كان المشركون يقولون: إن الله ذا قدرة مطلقة غير محدودة ويمكنه أن يهدي قلوبنا بالشكل الذي يريده، ﴿ولَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل/35].

فنقول: إن بطلان هذا الادعاء واضح تماماً، إذ كما قلنا، علاوة على الآية السابعة من سورة الفرقان المكية([4])، يقول تعالى على نحو التقريع والاستفهام الاستنكاري في سورة النحل هذه ذاتها في الآيات التي جاءت قبل الآية 43: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النحل/33]. ويقول في سورة الأنبياء مباشرة بعد الآية مورد البحث: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء/8].

هذا الكلام يُشعِر بوضوح تامّ أنّ قبول مشركي مكّة لنبوّة إنسان مثلهم تماماً في إنسانيّته وبشريّته كان أمراً عسيراً عليهم وموضع شك وريبة مِنْ قِبَلِهِم. فالادعاء بأن المشركين كانوا يعلمون أن الأنبياء السابقين كانوا جميعاً بشراً وأنه لم يكن عندهم شك في ذلك، ادّعاء بلا دليل ولا أساس له من الصحة بل مخالف لحقائق التاريخ ولنصوص القرآن.

وليس معنى كلامنا أن المشركين لم يكونوا يتحجّجون بأية حجة أخرى وأن إشكالهم كان منحصراً بهذه المسألة فقط، بل ما نريد قوله هو أن الآية 43 من سورة النحل والآية 7 من سورة الأنبياء كانتا جواباً على استبعادهم بشرية النبي الأكرم J العادية تماماً وتعجُّبهم من أن  يكون صاحبها نبياً مُرْسلاً من  الله، أما إشكالات المشركين الأخرى فيمكننا أن نجد الإجابات الأخرى عنها في سائر آيات القرآن.

نعم، كان المشركون يطرحون إشكالات أخرى أيضاً، منها قولهم: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الأنعام/148]. وقولهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النحل/35].

وقد قال الله رداً على هذه الإشكالات: إن هذا الكلام مجرّد تخرُّص وظنّ لا دليل عليه وقد قاله الذين من قبلكم. وكما قلت في تفسيري «تابشى از قرآن» [شعاع من القرآن]: والإشكال الثاني للكفار أنهم كانوا يدّعون أنّ الله أراد وشاء أن نعبد غيره نحن وآباؤنا وأن نُحرِّم الحلال من عند أنفسنا باسم الدين، وإذا كان الله قد أراد كفرنا فما الفائدة من مجيء النبيّ؟ إن إرسال النبي لمعارضة هذه الأمور باطل بالطبع!!

وقد أجاب الله عن قولهم هذا في تتمة الآية قائلاً: أولاً: ليس لديكم من دليل على ما تقولونه سوى الظن والتخمين, وإلا لو كان لديكم دليل فأخرجوه لنا. ثانياً: لم يأت الأنبياء أيضاً كي يجبروا الناس على الإيمان والتوحيد ويكرهوهم على ذلك، بل جاؤوا لتبليغ دعوة الله فقط كما قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل/35].

في الواقع لم يرد الله شرك العباد بل أرسل إلى جميع الأمم أنبياء لينهَوْهُم عن عبادةِ غيرِ الله، في حين أنّه لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ جَبْراً (الأنعام/149، النحل/9، الشعراء/4)، فالله تعالى لم يُرِدِ شرك العباد وليس هذا فحسب بل كما قال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل/36]، ولو أراد شرك العباد وضلالهم لأصبحوا مشركين جميعاً، ولو أراد إيمانهم وهدايتهم بالجبر لاهتدوا جميعاً، ولكن من الواضح أنه لم يرد ذلك، بل أرسل أنبياء إلى الأمم المختلفة كي يبلغوهم دين الله جهرةً فمن قبل الهداية نال الأجر والثواب ومن عصى ذاق العذاب.

يقول الكاتب: لو أراد الله بإرادته التكوينية كفر العباد وشركهم للزم من ذلك الجبر، وقبح الجبر وبطلانه بديهي، ولو أراد بإرادته التشريعية شرك العباد وكفرهم، وجب أن يبلّغ الناسَ إرادتَه هذه بواسطة كتبه السماوية، وبما أن هذا لم يحصل بل ما حصل هو عكسه تماماً وهو أن الله أرسل إلى جميع الأمم من يقول لها: ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل/36].

فكما تلاحظون ليست الآية 43 من سورة النحل والآية 7 من سورة الأنبياء إجابة عن الشبهة المذكورة أعلاه، بل هما إجابة عما ذكرناه قبل ذلك. لكن الخرافيون أرادوا أن يجعلوا هاتين الآيتين إجابة عن الشبهة الثانية دون أن يكون لديهم دليل على قولهم هذا.

إشكالهم الثاني: قالوا خداعاً للعوام: إن الله نهانا عن أن نحتكم إلى أهل الكتاب فكيف يمكن أن يُرجِعَنا إليهم في هذا الموضوع؟

نقول: إن ادّعاءكم هذا ينطبق عليه مقولة: «كلمةُ حقٍّ يُرادُ بها باطِلٌ». نعم، لقد نهانا الله عن الاحتكام إلى أهل الكتاب، ولكن الآية التي نحن في صددها، ونظائرها لا علاقة لها بموضوع التحاكم إلى أهل الكتاب. وهنا لا بد من توضيح:

أولاً: لا علاقة للآية 43 من سورة النحل والآية 7 من سورة الأنبياء بالتحاكم إلى أهل الكتاب، بل هي إذنٌ من الله بسؤالهم وغنيٌّ عن التوضيح أن السؤال غير طلب الحكم والقضاء.

ثانياً: ليست الآية التي نحن في صددها([5]) الوحيدة التي أجازت للمسلمين سؤال أهل الكتاب، بل قد أذن الله بهذا السؤال في موارد متعددة، من جملتها قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة/211].

قال الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» مفسِّراً هذه الآية:

"«سَلْ» يا محمد «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أي أولاد يعقوب وهم اليهود الذين كانوا حول المدينة، والمراد به علماؤهم وهو سؤال تقرير لتأكيد الحجة عليهم".

وَذَكَرَ صاحبُ «تفسير الميزان» هذا المعنى ذاتَه وقال: "أي اسأل علماء بني إسرائيل".

وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس/94]

وقال تعالى أيضاً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ﴾ [الإسراء/101].  قال الطَّبْرَسِيّ في تفسيرها في «مجمع البيان»: " «فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ» هذا أمر للنبي J أن يسأل بني إسرائيل لتكون الحجة عليهم أبلغ".

وقال تعالى أيضاً: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ 196 أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء/196-197]

في هذه الآيات اعتبر الله تعالى علم علماء بني إسرائيل دليلاً على صحة ما يذكره القرآن، ولو لم يقم الناس بالتحقيق في الأمر ودراسة كتب بني إسرائيل أو سؤال علماء اليهود فكيف لهم أن يفهموا أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون الموضوع المذكور؟

تلاحظون أن القرآن لم يرد من المؤمنين في هذه الموارد أن يحتكموا إلى أهل الكتاب، بل، كما هو رائج تماماً في المناظرات، يُطلَب أحياناً من الذين لا يُحتَمَل منهم تأييد الدعوى، شاهد، أو يُبحَث عن أدلة من مقبولات الخصم ومعتقداته ويُستَفاد منها كشاهد ضدّه. وهذا من أكثر طرق المباحثة والمناظرة تأثيراً ويوجب المزيد من الاطمئنان والتأكُّد. كما نجد أن الآيات 93 من سورة آل عمران وَ43 من سورة المائدة و157 من سورة الأعراف تتضمن دعوةً إلى الرجوع إلى التوراة والإنجيل الموجودَين زمن النبي J لتأكيد مطلب ما، وهذا ليس معناه أبداً الاحتكام إلى تلك الكتب، بل هو نوع من اتخاذ الدليل من مقولات الخصم. [على مبدأ: وشهد شاهد من أهلها].

إشكالهم الثالث: قولهم إن المشركين الذين كانوا ينكرون نبوّة النبي J لم يكونوا في الوقت ذاته على دين أهل الكتاب، وَمِنْ ثَمَّ لم يكونوا ليقبلوا قول أهل الكتاب بالطبع، وعَلَيْهِ فلم يكن هناك من معنى أو من لزوم أن يحيلهم القرآن إلى أهل الكتاب ليسألوهم.

ونقول في الرد على هذا الكلام: أولاً: مجرّد عدم قبول المخاطَب لا يُعَدُّ سبباً لِعَدَمِ إقامةِ البيِّنَةِ والدليلِ الصحيحِ عليه - على الأقل مرَّةً واحدةً - . وهذا الأمر ضروري لإتمام الحجة. إن الله لم ينهَ عن بيان الحقّ حتى لفرعون وأمثاله.

ثانياً: لم يكن المشركون كلُّهم معاندون ولجوجون على نفس الدرجة، بل أسلم بعضهم فيما بعد. فإظهار الدليل لبعضهم لم يكن يخلو من فائدة.

ثالثاً: كما قلنا، إن هذا الادّعاء يخالف كتب التاريخ والتفسير بوضوح. فكما مرَّ معنا في الأسطر الماضية، وحسب قول الشيخ الطَّبْرَسِيّ، فإنه انطلاقاً من معرفة المشركين بعداوة اليهود وخصومتهم الشديدة للنبي الأكرم J، كانوا - أي المشركون- مستعدين أن يقبلوا كلام اليهود إذا أخبروهم بشيءٍ من كتبهم ضدَّ النبيّ J.

لهذا - كما جاء في تفسير «مجمع البيان» (ذيل تفسيره الآية 9 من سورة الكهف) وَذَكَرَتْهُ سائرُ كتب التفسير أيضاً -: "... أرسلت قريشُ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ - الذي كان من شياطين قريش وممن يؤذي رسولَ الله J كثيراً - وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِى مُعَيْطٍ، إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال زعماء قريش لهما: سلاهم عن محمد، وَصِفَا لهم صفتَه، وخبِّراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا".

كما جاء في تواريخ عدَّة من جملتها «تاريخ الأمم والملوك» للطبري، وتاريخ «البداية والنهاية» لابن كثير([6]) وفي كتب التفسير مثل «مجمع البيان» (ذيل تفسيره الآية 51 من سورة النساء):

" قال أبو سفيان لكعب [بن الأشرف]: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمِّيُّونَ لا نعلم، فأيُّنَا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمَّد؟ قال كعب بن الأشرف: اعرضوا عَلَيَّ دينَكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج و....و..... فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمَّد!!".

كما جاء في القرآن أن إحدى حُجَج المشركين التي كانوا يتذرَّعون بها لتبرير عدم رفضهم عقيدة التوحيد هي قولهم: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ 5 وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ 6 مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص/5-7].

قال الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان»: إن المقصود من ﴿الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ في الآية: «النصرانية».

ما يُفْهَم ضمناً من كلام المشركين أنه لو كان للتوحيد سابقة على الأقل في دين النصرانية - التي هي الملَّة الأخيرة - لكان قبول دعوة التوحيد هذه أيسر علينا.

إشكالهم الرابع: أنهم قاموا بحيلة شيطانية([7]) أخرى لخداع العوام وقالوا إن الله تعالى سمَّى نبيَّه في سورة الطلاق (الآية 10 و11) «ذِكْراً» فقال: ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا 10 رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الطلاق/10- 11]، فإذا كان رسول الله J «ذِكْراً» فإن أهل بيت النبيّ سيكونون «أهلَ الذِّكْر»!!

فنقول: أولاً: لدينا نقاشٌ في إعراب هذه الآية، ولما كانت البينة على المدَّعِي، فعليكم أن تثبتوا أولاً أن كلمة «رَسُولًا» تابعة لكلمة «ذِكْرًا»، وأنها ليست معمولة لفعل مُقَدَّر محذوف، لأن الله تعالى أطلقَ مراتٍ عديدةً في القرآن الكريم على القرآن والكتب السماوية كلمة «الذِكْر»، كما استخدم مراراً وتكراراً فعل الإنزال والتنزيل بشأن الكتب السماوية ولم يأت في القرآن ولا مرَّةً واحدةً: "إنَّا أرسلنا كتاباً"، في حين قال مراراً وتكراراً: لقد بعثنا الأنبياء ولقد أرسلنا الرسل.... ومن البديهي أنه لا بُدَّ من فهم آيتي سورة الطلاق هاتين على ضوء ما ذكرناه أعلاه وبما يتناسب مع سائر آيات القرآن.

ثانياً: لقد ذكر الله في كتابه قرائن يمكن من خلالها أن نفهم بيسر وسهولة أن تقدير فعل محذوف من قبيل «أرسلنا» أو «بعثنا» عاملاً ناصباً لكلمة «رَسُولًا» أكثر موافقةً ومناسبةً لآيات القرآن الأخرى، وَمِنْ ثَمَّ فهو أقوى الوجوه إلى الصحة، وبالنتيجة فإن ترجيح توجيهٍ آخر للآية يحتاج إلى إقامة الدليل عليه.

قال الله تعالى: ﴿أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾  [البقرة/151]. وهناك آيات عديدة أخرى في هذا المعنى مثل الآية 164 من سورة آل عمران والآية 59 من سورة القصص والآية 2 من سورة الجمعة.

وقال تعالى أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم/1]. وقال كذلك: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم/5]. وقال أيضاً: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الحديد/9].

تلاحظون أن الذي يُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور - حسب آيات القرآن الكريم- هو اللهُ وكتابُهُ وآياتُهُ. والذي يتلو آيات الله على الناس ويبيِّنُها لهم: هو رسول الله([8]). ومن الواضح تماماً أن هذين الاثنين ليسا موجوداً واحداً بل موجودين اثنين. فبأي دليل تقولون إن كلمة «رَسُولًا» تابعة لكلمة «ذِكْرًا»؟

خامساً: حتى لو قبلنا بمغالطتكم واعتبرنا كلمة «رَسُولًا» تابعة لكلمة «ذِكْرًا»، وقلنا إن المقصود من «الذِّكْر» شخص النبي الأكرم J، فعندئذ أيضاً يكون إطلاق كلمة «الذِّكْر» على رسول الله J من باب استعمال المصدر بدلاً من الصفة بقَصْد المبالغة، كأن نقول مثلاً «زيد عدلٌ» بدلاً من قولنا «زيدٌ عادلٌ جداً»، فنستخدم كلمة «عدل» للمبالغة ونقصد بها «العادل»، كي يدرك المُخاطَب أن هدف المتكلم شدة التأكيد على عدالة «زيد». وعلى هذا الأساس فلأجل التأكيد على صفة «المُذَكِّر» للنبيّ في سورة الطلاق، تم استخدام كلمة «الذِّكْر» في حقه، أي في الواقع كما أن زيداً ليس العدل بل هو العادل جداً، فكذلك النبي ليس «ذِكْرًا» بل هو «مُذَكِّرٌ» جداً.

ثم إن كلمة «الذِّكْر» استُخدِمَت في الآية 34 من سورة النحل والآية 7 من سورة الأنبياء -خلافاً لما في سورة الطلاق- وحدها ودون أية قرينة أو صفة أخرى، فبأي دليل تقولون إن المراد من «الذِّكْر» في هاتين الآيتين هو النبي؟

سادساً: لو فرضنا أننا قبلنا -دون دليل- أن المراد من كلمة «ذِكْرًا» في سورة الطلاق: النبيُّJ. فأخبرونا كيف يمكن أن يقول الله تعالى للمشركين في مكة: إن لم تكونوا تعلمون فاسألوا أهل الذكر، ولكن بعد عدة سنوات في المدينة وفي سورة الطلاق يقول إن المقصود من «الذِّكْر» ليس الكتب السماوية بل النبي!! كي يدركوا أن معنى «أَهْلِ الذِّكْرِ» هو «أهلُ بيت النبيّ» وليس أتباع الكتب السماوية الأخرى ؟!!

سابعاً: كما قلنا نزلت آيتا سورة النحل وسورة الأنبياء في مكة، ولم يكن موضوع الوصية والولاية مطروحاً بأي شكل من الأشكال في مكة، ولم يكن عليٌّ u قد تزوَّج بعد، وكان لا يزال شاباً ولم يكن أحد يعرفه إلا بوصفه ابن عم النبي J وأحد أصحابه، كما لم يكن لسائر الأئِمَّة وجود خارجي، وبالنتيجة فإن مفهوم الآية زمن نزولها سيصبح كالتالي: يا أهل مكة كان الأنبياء بشراً كسائر البشر نوحي إليهم ولم يكونوا أفراداً لا يأكلون الطعام ولا كانوا خالدين لا يموتون، وهذا النبي أيضاً ليس استثناء من هذه القاعدة فإن لم تؤمنوا بهذه الحقيقة فاسألوا ابن عمه الشاب الذي نشأ في بيته أو اسألوا أبناءه أو أحفاده الذين لم يولدوا بعد!!!

فليت شعري! هل الذين رفضوا كلام النبيّ سيقبلون كلام ابن عمه؟!

ثامناً: افترى الرواة على الأئِمَّة لاسيما الإمامين الباقر والرضا -عليها السلام- بأنهما قالا: لو كان المراد من «أَهْلِ الذِّكْرِ» أتباع الكتب السماوية قبل القرآن، وأن كتاب الله أحال مخاطبيه إليهم؛ ففي هذه الحالة سيقوم أهل الكتاب بدعوة السائلين إلى دينهم وهذا أمر لا يرضاه الإسلام! ([9])

فنقول: المعروف عن معظم اليهود أنهم ما كانوا يرغبون في دعوة الناس إلى دينهم ولا يفعلون ذلك الآن، خلافاً للنصارى، ولذلك عاش اليهود في الجزيرة العربية سنين طويلة ولم يدعوا العرب إلى دينهم. ولكن لنفرض أن اليهود أيضاً كانوا كالنصارى يدعون الناس إلى دينهم، إلا أنه بالنظر إلى أن خطاب الآية مُوَجَّهٌ إلى مشركي أم القرى (مكة) في المقام الأول فليس هناك من قلق أن يُدعَوا إلى اليهودية والنصرانية لأن هذين الدينين على الأقل لم يكونا أسوأ من الشرك الخالص ومن عدم امتلاك أي كتاب سماوي.

إضافةً إلى ذلك فإن القرآن انتقد اليهود والنصارى مراراً ولم يَقُلْ تَعَلَّمُوا الحقَّ والباطلَ من أهل الكتاب كي يقوموا بدعوتنا إلى دينهم، بل كل ما قاله هو أنه في مقام المحاجَّة حول أن أنبياء الأمم الماضية كانوا بشراً أم ملائكةً: اسألوا أهل الكتاب، وهذا السؤال ونظائره لا يوجب ضلال المسلمين.

تاسعاً: لنفرض أننا قبلنا أننا يجب أن نسأل أهل بيت النبيّ -يعني الأئِمَّة الإثني عشر- فقط عن حقائق الدين، وأن فهم الدين بشكل صحيح منوط بسؤالهم، فلماذا لم يوضِّح القرآن الكريم لنا هذه الحقيقة المهمِّة إلى هذه الدرجة ولم يبينها لنا بشكل صريح وواضح كي لا يبقى فيها أي إبهام وتتم الحجة على الجميع؟

والآية الثانية التي تلاعب الرواة بمعناها -كما مرَّ- هي الآية 44 من سورة الزخرف المباركة. وينبغي أن نتذكر أن سورة الزخرف مكية وأن الله تعالى قال قبل تلك الآية ما يلي: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ 36 وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 37 حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ 38 وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ 39 أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 40 فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ [الزخرف/36-41].

 ثم قال بعد ذلك: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 43 وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف/43-44].

أي أن عدم قبول الكفار لا علاقة له بك وبأهل بيتك وقومك، وعن قريب سوف يُسْأَلُ الجميع عن القرآن، فالذين لم يؤمنوا بالقرآن ولم يقبلوا به سيُجَازَوْنَ على صنيعهم، والذين آمنوا سينالون أجرهم وثوابهم.

فكما تُلاحظون بكل وضوح: مرجع ضمير «الهاء» في كلمة «وَإِنَّهُ» في الآية 44 المذكورة من سورة الزخرف هو كلمة «الَّذِي» في الآية 43، والمراد: نعمة الوحي والقرآن.  لكن رواة الكُلَيْنِيّ الجهلة أو المغرضين لم يفهوا هذا الأمر الواضح جداً وقالوا إن معنى قومك هو الأئِمَّة فقط، واعتبروا المقصود من «الذِّكْر» في هذه الآية الرسول J أيضاً! 

أولاً: أثبتنا في السطور السابقة أنَّ النبيَّ ليس «ذِكْرَاً» ولكنه «مُذَكِّر». ثانياً: هذه المجموعة من الأحاديث معارضة للأحاديث التي رواها الكُلَيْنِيُّ عن الأئِمَّة والتي تقول إن «الذِّكْر» هو القرآن، وأن الإمام يقول نحن أهل القرآن (ومن جملتها الحديث 5 في الباب 78 والحديث 10 في الباب  122). ثالثاً: نسأل هل الأئِمَّة فقط مسؤولون؟! أليس الآخرون مسؤولون أيضاً؟ فلماذا قال الله أنه بالإضافة إلى الأنبياء فإن جميع المخاطبين مسؤولون كذلك (الأعراف/6)؟ ([10]) ، وعندئذٍ هل يمكن أن يقول الإمام إن المراد من المسؤولين نحن؟! رابعاً: فإن قيل إن المقصود من أن «أَهْلَ الذِّكْر» مسؤولون، هو أنهم المرجع الذي يسألهم الناس عن حقائق الشريعة. فنقول - كما شاهدنا في السطور السابقة - الآية 43 من سورة الزخرف مُصَدَّرَةٌ بحرف العطف «الفاء» ومرتبطة بشكل كامل بالآية التي قبلها والمعنى الذي ادعيتموه لا يتناسب مع سياق الآيات والآية 43، خاصة أن قوم النبي في مكة لا يشملون الأئِمَّة الذين لم يكونوا قد وُلِدوا بعد.

إن الكُلَيْنِيّ تائه ومحتار في الباب 78 هذا، فأحاديثه في بيان المراد من «الذِّكْر» مختلفة. لذلك نسأله: أوضح لنا ما يجب علينا أن نأخذ به، هل رواتك يعتبرون «الذِّكْرَ» النبيَّ أم القرآنَ؟ فمثلاً، في الحديث الرابع من الباب المذكور يقول الإمام الصادق u إن «الذِّكْر» هو النبي J, وفي الحديث الخامس يقول إن «الذِّكْر» هو القرآن! حقاً إننا لا ندري هل كان الكُلَيْنِيّ واعياً عندما كان يضع هاتين الروايتين إلى جانب بعضهما أم لا؟([11])

لأنني لا أتصور عاقلاً يشكّ في أنّ «القرآن» و«النبي» موجودان اثنان،  أي أن القرآن غير النبي والنبي غير القرآن، وبعبارة أخرى إن قال شخص إن المراد من «الذِّكْر» هو النبي فقد قال إن «الذِّكْر» غير القرآن، وإن قال إن «الذِّكْر» هو القرآن فقد اعتبر في الواقع أن «الذِّكْر» ليس النبي([12]).

وقبل البدء بدراسة وتمحيص أحاديث الباب 78 هذا، من المفيد أن ننقل قول أحد مشاهير مراجع الشيعة أعني آية الله أبو القاسم الخوئي حول الحديث الرابع في الباب المذكور، وقوله ينطبق أيضاً على الأحاديث المشابهة أيضاً، قال:

"أقول: لو كان المرادُ بالذِّكْرِ في الآية المباركة [من سورة الزخرف] رسولَ اللهِ J فَمَن المُخَاطَبُ؟ ومن المُرادُ من الضمير في قوله تعالى: ﴿لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾؟ وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم (ع) فضلاً عن دعوى القطع بصدوره؟!"([13]).

ß الحديث 1- راويه «مُعلَّى بن محمَّد» الكذَّاب، و«الحسن الوشَّاء» وقد عَرَفْنَا حَالَهُمَا سابقاً.

ß الحديث 2 - سنده في غاية الضعف.

ß الحديث 3 - راويه مثل الحديث الأول مُعلَّى بن محمَّد» و«الحسن الوشَّاء». وقد نقدنا هذا الحديث في كتابنا هذا (ص 321) فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.

ß الحديث 4 - ذكرنا أعلاه كلام السيد الخوئي حول هذا الحديث. ويقول المَجْلِسِيّ: "... ولعلَّ فيه إسقاطاً أو تبديلاً لإحدى الآيتين [أي سؤال أهل الذِّكْر، وآية سورة الزُّخْرُف] بالأخرى من الرواة أو النُسَّاخ."([14]).

ß الحديث 5 - في هذا الحديث قَصَرَ الإمام قوله تعالى وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ على الأئِمَّة فقط وقال: "نَحْنُ قَوْمُهُ وَنَحْنُ الْمَسْئُولُونَ!".  وهذا القول مخالف للقرآن لأن سورة الزخرف مكية ولم يكن الأئِمَّةُ موجودين في ذلك الحين، كي يتم التعريف بهم للناس بوصفهم المرجع في السؤال.

ß الحديث 6 - أحد رواته «مَنْصُورُ بْنُ يُونُسَ» شخص غير موثوق([15]). وقد تكلمنا على هذا الحديث سابقاً. تُراجَع الصفحة 251من هذا الكتاب.

ß الحديث 7 - أحد رواته «صَفْوَانُ بْنُ يَحْيَى» الذي عرَّفْنَا بحاله فيما سبق([16]).

ß الحديث 8 - محَّصْنَا هذا الحديث ونقدناه في الكتاب الحالي (الصفحة 250- 251) فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.

ß الحديث 9 - ادَّعَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ البَزَنْطِيُّ، القائلُ بوقوع التحريف في القرآن -  أن الإمام الرضا (ع) قَالَ "....  فَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْأَلَةُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكُمُ الْجَوَابُ". وادَّعَى أن الإمام استند في ذلك إلى الآية 50 من سورة القصص المباركة (أي قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ‏).

فنقول: إنه من المُحال أن يقول الإمام الرضا (ع) مثل هذا الكلام، لأن  الله تعالى قال في الآية 49 من سورة القصص: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى‏ مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ﴾ ثم جاءت الآية 50 القائلة: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ﴾‏.

إن هذا الكلام صحيح في حق من أجيب على الأقل مرة واحدة على سؤاله، ولكنه اتَّبع هوى نفسه ولم يقبل الإجابة. أما من لا يُجاب على سؤاله أصلاً، فلا يمكن لومه. ولذلك فإن الله العليم رغم علمه بما في صدور الكُفَّار، بعث الأنبياء وأعلن الحقَّ لهم، وبعد أن أتم الحجة عليهم،  ورفضوا قبول الحق عملياً، قال عندئذٍ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة/6].

فقط. أما المَجْلِسِيّ فاعتبر الأحاديث 1 و2 و3 ضعيفةً، والحديث 6 حسناً مُوَثَّقَاً، والأحاديث 4



([1])   ينبغي أن نقول إن بعض المتعصّبين قالوا: ليس المراد من كلمة «الذِّكْر» في الآية 105 من سورة الأنبياء «التوراة»،  بل لما كان القرآن مقدماً في الرتبة والشرف على جميع الكتب السماوية الأخرى قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء/105] أي كتبنا في الزبور الذي يأتي بعد القرآن من ناحية الرتبة والشرف! ولكن سورة الأنبياء اختصت بذكر أحوال 16 نبيّاً من أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، وسياق الكلام في تلك السورة يتناسب أكثر مع المعنى الذي ذكرناه [أي أن الذِّكْر هنا هو «التوراة»]، إضافةً إلى ذلك فإن كلمة «الذِّكْر» أُطلِقَت في الآية 48 من السورة ذاتها على «التوراة»، وليس هناك دليل يدعو إلى ترك المعنى المتناسب والواضح لكلمة «الذِّكْر» في الآية 105 واختراع معنى آخر لها.

إن كل فرد منصف يقرأ سورة الأنبياء دون أحكام مسبقة، يلاحظ أن الله تعالى قال خلال بيانه لأحوال عدد من الأنبياء إننا في طول التاريخ أكدنا -بواسطة الكتب السماوية- ومن جملتها في التوراة وبعدها في الزبور- على هذه الحقيقة وهي أن السعادة الأخروية والأبدية من نصيب المؤمنين الصالحين.

وفي هذه السورة فإن هدف القائل ووجهة الكلام وروحه لا تتناسب مع ذكر مراتب الكتب بالنسبة إلى بعضها ولا تريد الإشارة إلى رجحان كتاب على سائر الكتب.

([2])   نِعْمَ ما قاله أخونا الفاضل جناب «مصطفى الحسيني الطباطبائي» - أيَّده الله تعالى - أن الناس اليوم يتطلَّعون إلى الأمور ذاتها التي كان يتطلَّع إليها المشركون العرب وينتظرونها من النبي زمن رسالته، وهناك بين الشيعة من سرَّى هذا التوقُّع [للأعمال والصفات اللابشرية الخارقة] من الأئِمَّة أيضاً (من قبيل ما ذكرناه في الصفحات 126- 133 من هذا الكتاب)، مع فارق أن المشركين العرب لما كانوا يرون بالعيان أن النبي فاقد لتلك الصفات الخارقة التي يتوقعونها منه، كانوا يرفضون الإيمان برسالته، أما الآن فإن الذين آمنوا برسالة النبيّ استناداً إلى ما لُقِّنوه منذ الصغر في بيئتهم التي نشؤوا فيها، يتصورون الأنبياء والأئمّة بالصفات والأحوال ذاتها التي كانت تعجبُ المشركين ويتصورون لزوم وجودها في الأنبياء! وإذا وجدوا أن نصوص الشرع لا تؤيد ما يتصورونه فسَّروها بقوَّة التأويل والتوجيه أو بمساعدة الروايات - وإن كانت غير صحيحة - ليجعلوها مطابقة لتصورهم!!! اللهم نعوذ بك من العصبية، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَاهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.

([3])   من الجدير بالذكر أن هذا المعنى الذي ذكرناه للدعوة إلى سؤال أهل  الذِّكْر قاله معظم  المفسرين - أعم من الشيعة والسنة - وحتى مفسري الشيعة  المعاصرين مثل مؤلف «التفسير الأمثل» ومؤلف «تفسير الميزان»، ومفسري الشيعة القدماء كالشيخ الطوسي والطبرسي والفيض الكاشاني....الخ،  فسَّروا الآية على هذا المعنى الظاهر.

([4])   وكذلك الآية 94 من سورة الإسراء، والآيات 24 و33 و34 من سورة المؤمنون، والآية 24 من سورة القمر التي نزلت جميعها في مكة. مثلاً، يقول تعالى في الآية 94 من سورة الإسراء: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا؟!﴾.

([5])   يقصد الآية 43 من سورة النحل التي تقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43 بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ....﴾ [النحل/43 -44]. (المُتَرْجِمُ)

([6])   حتى «المَجْلِسِيّ» الخرافي، ذكر هذه  الحادثة في كتابه «حياة القلوب». وفي هذه الأيام التي أنا مشغول فيها بتصحيح وتنقيح هذا الكتاب، ليس لدي إمكانية الوصول إلى هذا الكتاب حتى أذكر رقم الصفحة.

([7])   يبدو أنهم نسوا قول الله تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء/76]. 

([8]) كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل/44]. فكما تلاحظون في هذه الآية لا يقصد بالذكر: الرسول، بل يقصد به شيء أُنزل على النبي أولاً ثم نُزِّل على الناس في المرتبة الثانية وبينه النبي للناس وأظهره لهم. فكيف يمكن أن يقول الله في سورة الطلاق إن رسول الله هو «الذِّكْر» ذاته؟!

([9])   كما في الحديث السابع من هذا الباب ولفظه: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ إِنَّ مَنْ عِنْدَنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! قَالَ: إِذاً يَدْعُونَكُمْ إِلَى دِينِهِمْ. قَالَ قَالَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ: نَحْنُ أَهْلُ الذِّكْرِ وَنَحْنُ الْمَسْئُولُونَ".  (المُتَرْجِمُ)

([10]) بناء على الآية 26 من سورة الإسراء والآية 8 من سورة التكاثر و..... جميع العباد مسؤولون أمام الحق. فالمسؤولون ليسوا منحصرين بالأئمة عليهم السلام.

([11])  بالمناسبة، كلا الحديثين رواهما «الحسين بن سعيد»! وصدق من قال: حبل الكذب قصير. والطريف أن المَجْلِسِيّ اعتبر الحديثين صحيحين!

([12])  روى المَجْلِسِيّ في بحار الأنوار (ج 23، باب 9، صفحة 172 فما بعد) تحت عنوان (باب أنهم (ع) الذِّكْرُ وأَهْلُ الذِّكْرِ) 65 حديثاً. ونجد الإشكال ذاته في هذه الأحاديث، أي لا ندري هل «الذِّكْر» هو النبيّ أم القرآن، فبناء على الأحاديث 5، 6، 28، 33، 34، 35، 37، 44 المراد من «الذِّكْر» القرآن، وبناء على الأحاديث 25، 50، 62 و64 المراد من «الذِّكْر» النبيّ!

([13])  آية الله سيد أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، ج 1، ص36.

([14])  المَجْلِسِيّ، مرآة العقول، ج 2، ص 429. (المُتَرْجِمُ)

([15])  رجال الكِشِّيّ، طبع كربلاء، ص 398.

([16])  تراجع الصفحة 294من الكتاب الحالي.