165. بَابٌ فِيهِ ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ وَالْجَفْرِ وَالْجَامِعَةِ وَمُصْحَفِ فَاطِمَةَ (ع)

هذا الباب من أبواب «الكافي» الفاضحة جداً، وهو يشتمل على ثمانية أحاديث. صحَّح المَجْلِسِيّ الحديثين 1 و5 منها واعتبر الحديثين 3 و7 حسنين والحديث 2 ضعيفاً والحديث 4 مُرْسَلاً والحديث 6 مجهولاً، وسكت عن الحديث 8 لوجود «فُضَيْل بن سُكَّرة» المجهول في سنده! ولم يعتبر الأستاذُ البِهْبُودِيُّ أياً من أحاديث هذا الباب صحيحاً.

لقد جاءت في هذا الباب أحاديث لا تتفق أبداً مع انحصار نزول الوحي على النبيِّ J وختم الوحي به، لأن أحاديث هذا الباب تقول إن الوحي كان ينزل على غير النبي أيضاً، وأنّه تواصل نزوله بعد وفاته J!! في حين أننا نقرأ في كتاب الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة/3]. وكما ذكرنا سابقاً([1])، فإنّ الإمام علياً u قال أيضاً عن النبيّ الأكرم J: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ". (نهج البلاغة، الخطبة 235).

الإشكال الكبير الآخر في أحاديث هذا الباب، أنه لما كان حبل الكذب قصير فإن الذي يَتَبَـيَّنُ من هذه الأحاديث أن رواة الكُلَيْنِيّ أنفسهم كانوا حيارى تائهين لا يعلمون ماذا يُلَفِّقون! فهم يروون في أبواب أخرى عن الأئِمَّة أنَّهُم: مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُون، وأنَّهُم يَعْلَمُونَ عِلْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمُ الشَّيْ‏ء، وأن لديهم علماً لَدُنِّـيَّاً، وأنَّهُم إِذَا شَاءُوا أَنْ يَعْلَمُوا عُلِّمُوا، وأن الملائكة تخبرهم وأمثال هذه الادِّعاءات...... ولكنَّهم في هذا الباب يقولون إن علم الأئِمَّة ناتجٌ من تعلّمهم من الكتب والمستندات المذكورة في هذه الأحاديث!!  حتى أنه جاء في كتاب المواريث (فروع الكافي، ج 7، الحديث 3) عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ الإمام الباقر (ع) عن سهم ميراث الجد؟".  وبدلاً من أن يجيبه الإمام قال له: "إِذَا كَانَ غَداً فَالْقَنِي حَتَّى أُقْرِئَكَهُ فِي كِتَابٍ قُلْتُ أَصْلَحَكَ اللهُ حَدِّثْنِي فَإِنَّ حَدِيثَكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُقْرِئَنِيهِ فِي كِتَابٍ فَقَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ إِذَا كَانَ غَداً فَالْقَنِي حَتَّى أُقْرِئَكَهُ فِي كِتَابٍ"([2]).

وجاء في كتب أخرى أيضاً أن الإمام الباقر (ع) استند في مناقشة بينه وبين أحد الفقهاء المشهورين، ويُدعى «الحكم بن عتيبة»، إلى كتابٍ محفوظٍ لدى الإمام، بخط علي u و إملاء رسول الله J.([3])

ß الحديث 1- كما يقول أخينا الفاضل المرحوم قلمداران (رح): كيف يروي «أَحْمَدُ بْنُ‏ عُمَرَ الْحَلَبِيُّ» الذي كان من أصحاب الإمامين الرضا والجواد، هذا الحديث مباشرةً وبدون واسطة عن «أبي بصير» الذي كان من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم؟!

يقول أَبُو بَصِيرٍ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ u فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، هَاهُنَا أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلَامِي؟؟ قَالَ فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللهِ u سِتْراً بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ فَاطَّلَعَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ".

من الطريف أن الراوي يريد أن يقول في هذا الحديث إنّ الإمام يعلم كل شيء، ولكننا نرى في بداية حديثه أنّ الإمام لم يكن له علم بما في داخل بيته وبما يجري خلف الستارة المنسدِلة بين الغرفتين، ولذلك قام برفع الستارة والنظر وراءها ثم طَمْأَنَ «أبا بصير» بأنه يمكنه الآن أن يسأل ما يريده، لأنه لا يوجد أحد خلف الستارة. فإن قيل إن الإمام قام بهذا العمل لأجل «أبي بصير» كي يرى ويعلم أن لا أحد في الغرفة الأخرى، قلنا إن «أبا بصير» كان أعمى ولم يكن يستطيع أن يرى إذا كان هناك شخص في الغرفة المجاورة أم لا، إذن، إن كان الإمام قد رفع الستارة لينظر ما خلفها فإنه قد فعل ذلك لنفسه. لهذا السبب جاء في الحديث: «فَاطَّلَعَ فِيهِ» ولم يقُلْ «فرفع السِّتْرَ لِيُرِيَهُ».

وجاء في جزء من هذا الحديث أن الإمام أظهر أنه مُغْضَبٌ وغَمَزَ بِيَدِهِ [أي طعن بيده] بدنَ أبي بصيرٍ وَقَالَ له حَتَّى أَرْشُ هَذَا (أي حتى دية هذه الطعنة التي طعنتك إياها) موجودةٌ في كتاب «الجامعة» هذا!

ونسأل ما هو مقدار دية تلك الطعنة ومن أين بيَّنها الإمام؟ وإن لم يُبَيِّنْها فما هي فائدتها لأمة الإسلام؟

ويقول الإمام في جزء آخر من الحديث: "وَإِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ (ع) وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (ع)؟ قَالَ قُلْتُ وَمَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (ع)؟ قَالَ: مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَاللهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ!!".

ونسأل: ألم تأتِ في المصحف المذكور كلمة «الله» ولا كلمة «القيامة» ولا كلمة «البِرّ» أو «الصدق» أو «الفلاح» أو.....؟

والأعجب من ذلك أن الكُلَيْنِيّ روى في الحديث الثامن عشر من «روضة الكافي» عن «أبي بصير» هذا ذاته([4]) أنه قرأ الآيات الثلاث الأولى من سورة المعراج على هذا النحو: "(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ‏ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ). فقال له أبو بصير: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّا لَا نَقْرَؤُهَا هَكَذَا؟! فَقَالَ الإمامُ: هَكَذَا وَاللهِ نَزَلَ بِهَا جَبْرَئِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ J وَهَكَذَا هُوَ وَاللهِ مُثْبَتٌ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ!!".

كما هو مُلاحَظٌ يقول «أبو بصير» في حديثٍ: «ليس في مُصْحَفِ فَاطِمَةَ(ع) مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ». ولكنه يقول في حديثٍ آخر إن تلك الآية مُثْبَتَةٌ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ!!

ويقول الراوي في آخر الحديث إن الإمامَ قَالَ: "إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وَعِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قَالَ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! هَذَا وَاللهِ هُوَ الْعِلْمُ. قَالَ: إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ. قَالَ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ الْعِلْمُ؟ قَالَ: مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ وَالشَّيْ‏ءُ بَعْدَ الشَّيْ‏ءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

أيها القارئ المحترم! هل هناك فرق بين هذين العِلمَين؟ من البديهي أنّه لا يمكن للإمام أبداً أن يقول مثل هذا الكلام ولا أن يعتبرهما عِلمَين. لكن واضع الحديث سعياً منه إلى إثبات امتلاك الإمام لعلوم متعددة لفّق كلاماً لا يُفهَم معناه وفضح نفسه.

ß الحديث 2- يقول في هذا الحديث: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ‏ o دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَu مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا وَيُحَدِّثُهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ u فَقَالَ: إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وَسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي".

فنقول: لو كان عليٌّ u - حسب قولكم - «مُحَدَّثاً» وكان يسمع صوت الملائكة، لم يكن بحاجة إلى أن يقول لحضرة الزهراء عليها السلام: "إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وَسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي".

بناءً على هذا الحديث أَرْسَلَ اللهُ إِلى فاطمة (ع) مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا وَيُحَدِّثُهَا عَمَّا يَكُونُ في المستقبل. وبناء على ما جاء في الحديث الخامس من هذا الباب كان جَبْرَئِيلُ u يَأْتِي فاطمة (ع) بعد رحيل أبيها فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهَا... وَيُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا! وأن مصحف فاطمة هو مجموع أقوال المَلَك هذا.

فنسأل: لو كان هدف ذلك العمل تطييب خاطر فاطمة عليها السلام وإدخال السرور على قلبها فهل إخبارها عن سمّ ابنها الحسن وشهادة سيد الشهداء وقتل أبنائه وحرق خيم أهل البيت وأسرهم وقتل زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام، ومحمد النفس الزكية وحبس حضرة الكاظم (ع) و..... موجب لسعادتها واطمئنان بالها؟!!

في هذا الحديث والحديث الخامس أن مصحف فاطمة يتضمن تلك الأمور التي قالها الملاك عن حوادث المستقبل. أما في الحديث الرابع في هذا الباب ذاته، فجاء أن "مُصْحَفَ فَاطِمَةَ (ع) فِيهِ وَصِيَّةُ فَاطِمَةَ (ع)؟!

والأهم من كل ذلك  أن علياً u قال عن النبي J: "خَتَمَ به الوحْيَ". (نهج البلاغة، الخطبة 133). وقال الشيخ المفيد: "إجماع العلماء على أنه لا يُوحَى لأحدٍ بعد خاتم  الأنبياء"([5]).  ويروي الكُلَيْنِيّ في الحديث الأخير من الباب 61 في الكافي عن حضرات الصادِقَيْنِ - عليهما السلام - قولهما: "لَقَدْ خَتَمَ اللهُ بِكِتَابِكُمُ الْكُتُبَ وَخَتَمَ بِنَبِيِّكُمُ الْأَنْبِيَاء".  وروى في الحديث الثالث من الباب 111 - الذي صحَّحه كلٌ من المَجْلِسِيّ والبِهْبُودِيّ - عن الإمام الصادق u أنّه قال: "إِنَّ اللهَ عَزَّ ذِكْرُهُ خَتَمَ بِنَبِيِّكُمُ النَّبِيِّينَ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ أَبَداً، وَخَتَمَ بِكِتَابِكُمُ الْكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ أَبَداً".

ß الحديث 3 - أحد رواته «عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ» الأحمق، وراويه الآخر «الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ»([6]). يُعَرِّف هذا الحديث لنا «الجَّفْر الأبيض» وهو وعاء جلديٌّ أبيض، فيقول: "إِنَّ عِنْدِي الْجَفْرَ الْأَبْيَضَ قَالَ قُلْتُ: فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ فِيهِ؟ قَالَ: زَبُورُ دَاوُدَ وَتَوْرَاةُ مُوسَى وَإِنْجِيلُ عِيسَى وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ u وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى فِيهِ الْجَلْدَةُ وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ وَرُبُعُ الْجَلْدَةِ وَأَرْشُ الْخَدْشِ"!

ويروي الكُلَيْنِيّ في الحديث من الباب 129 في الكافي عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "وَهُوَ يَنْظُرُ مَعِي فِي الْجَفْرِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ".

ولكن الكُلَيْنِيّ روى في حديثٍ آخر أن زرارة حصل على الجَفْر وما فيه، ونظر فيه، ونص عبارته: ".... فَلَمَّا أَلْقَى إِلَيَّ طَرَفَ الصَّحِيفَةِ إِذَا كِتَابٌ غَلِيظٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا خِلَافُ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ مِنَ الصِّلَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَإِذَا عَامَّتُهُ كَذَلِكَ فَقَرَأْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ..."([7]).

ولا يخفى أن العلّامة «أبو الحسن الشعراني» اعترف في تعليقاته على شرح الملا صالح المازندراني على «الكافي» أن هذا الحديث لا يتِّفِق مع الحديث الذي قبله. ولكن المُتَكَسِّبِين بالمذهب قالوا، بلا دليل يدعم كلامهم - كما هي عادتهم- إن ضمير «الهاء» في كلمة «فيه» في جملة "وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَد...." في الحديث الثالث هو «الجَفْر الأبيض» وليس «مصحف فاطمة»!

مع أن الحقيقة خلاف ذلك. ولكي يتضح تعصُّب المشايخ وخداعهم للعوام نأتي هنا بنص عبارة الحديث: "إِنَّ عِنْدِي الْجَفْرَ الْأَبْيَضَ. قَالَ قُلْتُ: فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ فِيهِ؟ قَالَ: زَبُورُ دَاوُدَ وَتَوْرَاةُ مُوسَى وَإِنْجِيلُ عِيسَى وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ u وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً([8])، وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، حَتَّى فِيهِ الْجَلْدَةُ وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ وَرُبُعُ الْجَلْدَةِ....".

ولما كان الأقرب يمنع الأبعد، فليس هناك من دليل على ترك الإحالة إلى كلمة «مصحف فاطمة» الأقرب ذكراً، وإرجاع الضمير بدلاً من ذلك إلى كلمة «الجفر» المذكور قبل سطر منها!

علاوة على ذلك فإن مرجع ضمير «الهاء» في كلمة «فيه» الثانية هو مرجِع ضمير «الهاء» في كلمة «فيه» الأولى ذاته، ولا يمكننا أن ندّعي دون دليل أن مرجعه إلى شيء آخر. إن ما يريد الراوي قولَه إنّه لا يوجد فيه قرآن بل فيه الأحكام التي يحتاجها الناس، وَمِنْ ثَمَّ فمن الواضح أنّ مرجع ضميرَي «الهاء» شيء واحد. وإلا فلا حاجة للقول إنّ القرآن ليس في مصحف فاطمة ولا في الجفر لأن القرآن في متناول أيدي الجميع وليس شيئاً يوضَع في محفظة خاصة ويكون عند فرد خاص.

ثم ما معنى نِصْفُ الْجَلْدَةِ وَرُبُعُ الْجَلْدَةِ؟ ونسأل أي جرم عقوبته نصف جلدة أو رُبُعُ جَلْدَةٍ؟ ولماذا لم يُبَيِّن الأئِمَّة الجرائم التي عقوبتها رُبُعُ جَلْدَةٍ ولا نجد لذلك أثراً في الفقه الإسلامي؟! من الواضح أن واضع هذا الحديث جاهلٌ بالفقه الإسلامي.

ß الحديث 4 - تمَّت في هذا الحديث المرسَل قراءةُ الآية 3 من سورة الأحقاف -في معرِض محاجَّة الكفّار والمشركين- بنحو خطأ!([9]) وبالطبع فإن المسترزقين من المذهب كلّما رأوا إشكالاً في نقل آية من القرآن قالوا - دون أن يكون لديهم أي دليل على قولهم - إن المقصود هو تفسير الآية أو نقل الآية بالمعنى!! ولكن المَجْلِسِيَّ أضافَ إلى احتمال نقلِ الآية بالمعنى، احتمالَ أن تكون قراءة الأئمَّة كذلك أيضاً!

وبالنظر إلى أنّ المتكلِّم كان في مقام الاستشهاد بآية من القرآن وأنه قال قبل الآية: «إنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: » فإن ادّعاء نقل الآية بالمعنى غير مقبول! بل الواقع أن واضع الحديث أخطأ في نقل الآية. وكما قلنا إنّ مضمون هذا الحديث يتناقض مع مضمون الحديثين الثاني والخامس في هذا الباب.

ß الحديثان 5 و6 - يقول متن الحديث الخامس واصفاً ما يُسَمَّى بصحيفة «الجامعة»: "فَالْجَامِعَةُ قَالَ تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وَهِيَ فِيهَا حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ..".

وفي الحديث السادس يقول «أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بِشْرٍ» الواقفيُّ على لسان الإمام الصادق (ع): ".... وَإِنَّ عِنْدَنَا كِتَاباً إِمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ‏ o وَخَطُّ عَلِيٍّ u صَحِيفَةً فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ...!".

فنقول:  أولاً: لا تتوافق أحاديث هذا الباب مع الأحاديث الأخرى المرويَّة عن علي u. ومن جملة ذلك أنّ «أبا جُحَيْفة» قال: "قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا إِلَّا كِتَابُ اللهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"([10]).

ورُوِيَ أيضاً: "عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَأُهُ إِلاَّ كِتَابَ اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ - قَالَ وَصِحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ([11]) - فَقَدْ كَذَبَ. فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ و... "([12]).

فكما تلاحظون أنكر أمير المؤمنين عليٌّ u  أن يكون لديه أي كتاب خاص، سوى الصحيفة التي كُتِبَت فيها المسائل المذكورة. والمسائل المذكورة هذه لا تحتاج إلى صحيفة بطول سبعين ذراعاً وعرض الأديم!

ثانياً: لو كان لدى الأئمَّة كتاب بإملاء النبي J وتحرير عليٍّ u وكانت أغلب مطالبه - كما يقول الكُلَيْنِيّ (فروع الكافي، ج 7، ص 94) - مختلفة عما بأيدي المسلمين من السنّة والفقه الإسلامي، لكان أهمّ واجب على الأئمَّة أن يعرِّفوا المسلمين بهذا الكتاب المذكور وأن يخالفوا البدع التي بينهم! فلماذا لم يعرِّف الإمام عليٌّ u في أيام خلافته المسلمينَ بهذا الكتاب ويحثُّهم على الرجوع إليه والاستفادة منه؟ لماذا لم يأتِ حضرة سيد الشهداء u في خطبه بذكر لهذا الكتاب؟ لماذا لم يعرِّف الأئمَّةُ هذا الكتاب الفريد للمسلمين بل تركوا مسؤولية ذلك على عاتق رواة الكُلَيْنِيِّ المعروفةِ أحوالهم؟!

ß الحديثان 7 و8 - لو كان مضمون هذين الحديثين صحيحاً، لما حدثت حادثة الوصية لإسماعيل بن جعفر. وذلك لأن الإمام الصادق u عرَّف بإسماعيل بوصفه الإمام من بعده، لكن إسماعيل تُوُفِّي قبل وفاة أبيه ولذلك وقع البِداء وقيل: «بدا لِـلَّهِ». كما أن هذين الحديثين ونظائرهما لا يتَّفِقان مع أحاديث الباب 184 أيضاً لأنه قيل في الباب المذكور إن الأئمَّة قالوا: إذا قلنا كلاماً عن شخص فلم يقع ما قلناه عنه ولكن وقع على ابنه أو حفيده فاعتبروا أن ذلك هو الذي كنّا نقصده! ونسأل: ألم يكن الأئمة ينظرون في «الجَفْر» وفي «مصحف فاطمة» ونظائرهما اللذَين يحويان «علمَ ما يكون»؟ إذن، لا معنى لقولهم عن شخص أمراً ما،  ثم عدم وقوع ما قالوه عنه!

كما أن أحاديث هذا الباب لا تتفق مع الحديث الثالث وما بعده من أحاديث الباب 156 في الكافي التي تقول إن الأئِمَّة كانوا يقولون: "إِذَا وَرَدَ عَلَيْنَا الشَّيْ‏ءُ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَنَا تَلَقَّانَا بِهِ رُوحُ الْقُدُس!‏"([13]). إذ إننا نسأل: إذا كان لديكم «الجَفْر» و«الجامعة» و..... التي تحوي جميع مسائل الشرع، فلن تستعصي أي مسألة عليكم، بالطبع، وعليه فلن تحتاجوا إلى أن يقولها لكم رُوحُ الْقُدُس! وإذا كان رُوحُ الْقُدُس جاهزاً دائماً للإجابة عن كل المسائل، فما هي الحاجة إذن للنظر في «الجَفْر» و«الجامعة» و.....؟



([1]) راجعوا الصفحة 471 من هذا الكتاب.

([2])   فروع الكافي، ج 7، ص 94. (المُتَرْجِمُ)

([3])   رجال النجاشي، ص 279 (ذيل ترجمة: محمَّد بن عُذَافِر بن عيسى الصَّيْرَفِيّ).

([4])   سقط اسم الإمام سهواً من صدر الحديث الثامن عشر في «روضة الكافي»، ولكن من الواضح أن «أبا بصير» كان من أصحاب الإمام الصادق (ع) وكان يخاطب الإمام في هذا الحديث كما تدل عليه مخاطبة أبي بصير الإمامَ بعبارة:  جُعِلْتُ فِدَاكَ!

([5])   تُراجَع الصفحة 485 من الكتاب الحالي.

([6]) بيَّنَّا حال «عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ» في الصفحة 348 فما بعد، وحال «الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ» في الصفحة 503 من هذا الكتاب.

([7])   فروع الكافي، ج 7، ص 94-95، كتاب المواريث (باب ميراث الولد مع الأبوين)، الحديث 3. تلاحظون أن أعداء الإسلام -بهدف بث التفرقة بين المسلمين -  كانوا يسعون بمثل هذه الأحاديث أن يسلبوا من الناس ثقتهم بما في أيدي المسلمين حتى في الأمور غير الخلافية!! (فتدبَّر جداً).  وبالمناسبة، فقد قال الشيخ الصدوق: إن ما تفرد محمد بن عيسى بن عبيد بروايته عن يونس، لا يُعَوَّل عليه ولا يؤخذ به.

([8])   جاء ما يشبه هذا التعبير حول «مصحف فاطمة» في أول أحاديث هذا الباب وهو قول الإمام: "وَاللهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ".

([9]) بدلاً من قوله تعالى: « ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا» [الأحقاف/4] قال الراوي: «فأتوا بكتاب من قبل هذا.....»

([10])  التاج الجامع للأصول، ج 1، ص 69، و سنن ابن ماجه، ج 2، ص 887، الحديث 2658، و مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 79. وأقول (المُتَرْجِمُ): والحديث أيضاً في صحيح البخاري، ج 1، ص 53، حديث رقم 111.

([11]) أُشير إلى هذه الصحيفة التي كانت في  غلاف سيف علي (ع) في كتب حديثنا أيضاً. راجعوا «وسائل الشيعة»، ج 19، ص 7 و 11 و 12 و 16.

([12])  صحيح مسلم، ج 2، كتاب العتق، الحديث 20. وهذا الحديث رواهُ البخاري أيضاً. وراجعوا كذلك سنن أبي داود، ج 4، ص 180.

([13])  الكُلَيْنِيّ، أصول الكافي، ج 1، ص 391، باب 156 (= بَابٌ فِي الْأَئِمَّةِ (ع) أَنَّهُمْ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُمْ حَكَمُوا بِحُكْمِ دَاوُدَ وَآلِ دَاوُد)، الحديث 3، وانظر أيضاً الحديث 4 و5 في ذلك الباب. (المُتَرْجِمُ)