166. بَابٌ فِي شَأْنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَتَفْسِيرِهَا

في هذا الباب تسعة أحاديث لجميعها سندٌ واحدٌ. ورغم أن المَجْلِسِيّ اعترف بضعف هذا السند ولكن لمَّا كانت أحاديث الباب خرافية ومنحرفة وفيها اعْوِجاج، فقد أعْجَبَتْهُ! لذا قال: إن هذه الأحاديث صحيحةٌ في نظري! أما الأستاذ البِهْبُودِيّ فلم يُصحِّح أيَّاً من أحاديث هذا الباب.

بصرف النظر عن أنَّ «محمَّدَ بْنَ أبي عبد الله» مجهولٌ و«سهلَ بنَ زيادٍ» راوٍ مفتضحُ الكذب قد أخرجوه من قم، فإن الراوي الأول لسند هذه الأحاديث: "الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِيشِ الرَّازِيُّ" ضعيفٌ أيضاً ونعرِّف هنا بحاله:

  قال عنه النجاشيُّ في رجاله، والعلامة الحلي: "ضعيفٌ جداً. له كتابُ «إنا أنزلناه في ليلة القدر»، وهو كتاب رديء الحديث، مضطرب‏ الألفاظ"([1]).

وقال عنه ابن الغضائري: "الحَسَنُ بنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِيشِ، الرازيّ، أبُو مُحَمَّد. ضَعِيْفٌ. رَوى عن أبي جَعْفَر الثاني «فضل إنّا أنزلناه في ليلة القدر» كتاباً مُصَنَّفاً، فاسِدَ الألْفاظ، تَشْهَدُ مخايِلُهُ على أنّهُ مَوْضُوعٌ. وهذا الرَجُلُ لا يُلْتَفَتُ إليه، ولا يُكْتَبُ حديثُهُ."([2]).

وقال العلامة الشوشتري في كتابه «قاموس الرجال» (ج 3، ص 182): "الحَسَنُ بنُ العبّاس بن الحريش، وضع على الأئمة أحاديث عرض حوادث السنة على الإمام".  وقال الشوشتري أيضاً في (ج 1، ص 443): "روى الكافي في باب فِي شَأْنِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أحاديث عن ابن الحريش لا يُفهم لها معنى صحيح، وعلامات الوضع فيها أوضح من نار على علم".

وقال الأستاذ الشيخ «هاشم معروف الحسني»: "وروى الكُلَيْنِيّ تسعة أحاديث بهذا السند، وكلها، بالإضافة إلى ضعف سندها، مضطربة الألفاظ يكتنفها الغموض والتشويش البعيدين عن منطق الأئمة (ع)"([3]).

أول أحاديث هذا الباب مليء بالعيوب والإشكالات. يمكن لمن أراد الوقوف عليها أن يرجع إلى «الكافي» (ج 1، ص 242 فما بعد). فعلى سبيل المثال يقول في حديثه: إن نبيَّ الله إلياس (ع) قطع على الإمام طوافه!

فنسأل: لماذا فعل ذلك؟ ألم يكن من الأفضل أن ينتظر حتى يكمل الإمام طوافه ثم يتحادث معه؟  هذا طبعاً بصرف النظر عن أن القول بأن إلياس (ع) كان لا زيال حياً حتى زمن الإمام الباقر (ع) كذب محض وخرافة وكلام يتعارض مع القرآن([4]) الذي قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء/34].

ثم إن إلياس الذي قال - حسبما جاء في الحديث - " أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قُوَّةً لِأَصْحَابِكَ"، لو أراد بيان مقامات الإمام لكان عليه أن يبين ذلك في ملأ عام من الناس لا في خلوةٍ بينه وبين الإمام. ثم لماذا كان إلياس (ع) مُتَنَقِّبَاً حتى أواسط هذا الحديث؟ ما فائدة مثل هذا العمل؟

كما افتُرِيَ على الإمام في هذا الحديث أنه قال عن النبي J: "وَأَنَّهُ كَانَ يَفِدُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ!!!".

فالعجيب أنه رغم استخدام القرآن الكريم فعل «الإنزال» و«التنزيل» مرات ومرات بشأن الوحي، أي اعتباره أن الوحي ينزل على النبي J وأن النبيَّ يتلقَّى الوحيَ بعد نزوله، لا أن النبيَّ يفد إلى الله ويسمع الوحي! إلا أن الواضع الجاهل أتى بتلك العبارة كأنه لم يكن يفهم ما يُلَفِّقُهُ من كلمات!

وبالنسبة إلى الحديث الثاني ننقل هنا خلاصة ما ذكره بشأنه العلامة الشوشتري (التستري) بتصرف يسير، قال:

"من علامات الوضع في هذا الحديث أن ظاهره يوحي بأن مناظرة الإمام الباقر لابن عباس تمت في زمن إمامة الباقر. في حين أن إمامته (ع) كانت بعد سنة 95هـ و ابن عباس كان قد توفي في غائلة (ابن الزبير) عام 68هـ، ولم يلتقِ الإمام الباقر بابن عباس إلا في فترة طفولته.

وبناءً على ما رواه الكِشِّيّ قال الإمام الصادق u إن أبي كان يُحِبُّ ابن عباس كثيراً. إضافةً إلى ذلك، خلافاً لما تذكره الحديث، لم يكن ابن عباس مخالفاً لآل البيت، وليس هذا فحسب بل إن معرفته بحقهم متواترة عنه. ومناظراته ومباحثاته مع عمر ومعاوية وعائشة وابن الزبير حول الإمامة مشهورة ومعروفة.

وقال عبد الجليل القزويني مؤلف كتاب «النقض» (صفحة 284) عن «ابن عباس»: "أولاً: عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ابنُ عمِّ المصطفى وأبُ الخلفاء وتلميذُ عليٍّ المرتضى وشيعتُه، وكان من مريدي عليٍّ وآل عليٍّ وكان بينه وبين بني أمية ومعاوية ويزيد وعبد الله بن الزبير خصوماتٌ عظيمةٌ وفصولٌ غراءُ وكان منكِراً لأقوالهم وأفعالهم ومناظراتُه ومحاوراتُه في هذا المعنى ظاهرةٌ".

ثم إن هذا الحديث يدَّعي أن ابن عباس أنكر كلام حضرة علي u حول ليلة القدر ولهذا السبب أصيبت عينه بضربة جناح الملائكة فعمي! في حين أن «المسعودي» قال: لقد كُفَّ بَصَرُ ابنِ عباس لكثرة بكائه على عليٍّ والحسنين عليهم السلام. ثم لماذا لم يصب جبرئيل خصومَ عليٍّ المغرضين بالعمى بل أصاب أول مدافع عن الإمام فأعماه؟!

إضافة إلى ذلك فإن جمل هذا الحديث وعباراته مختلة ومضطربة ولا يمكن الحصول على معنى صحيح ومفيد منها، وهي ركيكة إلى درجة أن أدنى العوام درجة في العلم والمعرفة لا يمكنه أن يقول مثل هذا الكلام، فما بالك بالأئِمَّة الكرام الذين كانوا أمراء الفصاحة والبيان؟

إن هذا الاختلال والاضطراب لا يقتصر على هذا الحديث بل ينطبق على أحاديث هذا الباب جميعها التي لها سند واحد"([5]).

وَاُدُّعِيَ في بقية أحاديث هذا الباب أنه لو كانت الملائكة تنزل في ليلة القدر فلابُدَّ أن يكون في الأرض فردٌ معصومٌ كي تتنزَّل عليه الملائكة! وهذا الفرد المعصوم كان في صدر الإسلام النبيَّ‌الأكرمَ J، وبعده كانوا هم الأئِمَّة.

فنقول: لم تقل سورة القَدْر إن جميع الملائكة ينزلون على النبي J ويحضرون عنده.

وطبعاً، نحن لا نريد أبداً أن ننكر -والعياذ بالله- نزول الملائكة -لاسيما حضرة جبريل (ع) - على النبيّ الأكرم J، لأن ملاك الوحي كان ينزل عليه خلال كل السنة، بل ما نريد قوله: أولاً: ليس لدينا دليل على أن جميع الملائكة كانوا ينزلون على النبي J. وثانياً: ليس لدينا دليلٌ على أن الملائكة لا تنزل إلّا على شخص معصوم، بل الذي يُستَفادُ من القرآن هو خلاف ذلك، كنزول الملائكة على الملكين هاروت وماروت وكالآيات الخمس الأولى من سورة النازعات و..... كثير من أمثال الملائكة التي كانت تدير أمور العالم بإذن الحق لم تكن تنزل على البشر أصلاً.

علاوة على ذلك فإننا نسأل: على من كانت تنزل الملائكة قبل مئة سنة أو قبل أربعين سنة من بعثة النبي J؟ أياً كان الجواب فسنقول: وبعد النبي J سيكون الحال على المنوال ذاته!

ومن عيوب أحاديث هذا الباب الأخرى أنها تدَّعي -كما تدَّعيه بعض أبواب «الكافي» الأخرى- أنه كان للأنبياء جميعهم أوصياء، في حين أن هذا الادعاء غير صحيح لأن الذي نستفيده من القرآن أن كثيراً من الأنبياء لم يكن لهم أوصياء بالمعنى الذي يقصده الكُلَيْنِيّ، ومن جملتهم الأنبياء الذين هلك أقوامهم أو الأنبياء الذين بُعِثَ نبيٌّ آخر بعدهم مباشرةً. ولا يمكن لأحد أن يقول إن النبيَّ التالي كان وصياً للأول، لأن النبوة إنما تكون بإعلان الله وتصريحه بنبوة عبد من عباده ولا تكون بالوصية من النبي السابق إلى اللاحق. وعلى كل حال فمن الواضح أن النبيَّ غير الوصيِّ ويختلف عنه،  كما يعترف هذا الحديث أيضاً بذلك حين يقول: "كَمَا اسْتَخْلَفَ وُصَاةَ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى يَبْعَثَ النَّبِيَّ الَّذِي يَلِيهِ".

وبالمناسبة فقد نقل واضع الحديث في الحديث السابع عن الإمام كلاماً بشأن الآية 55 من سورة النور لا يتفق مع تفسير حضرة عليٍّ u لهذه الآية!! راجعوا في هذا الشأن ما ذكرناه حول هذه الآية في الصفحات 559-561 في هذا الكتاب.



([1])   رجال ‏النجاشي، ص 61. (المُتَرْجِمُ)

([2])   رجال ابن الغضائري، ج 2، ص 118. (المُتَرْجِمُ)

([3])   هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الأخبار والآثار، ص 243.

([4])   أحد الأوهام التي روَّج لها الصوفية وأشاعوها بين المسلمين:  حياة الخضر و حياة إلياس و...... وهو كلام يفتقد إلى السند والدليل، وادعاء يخالف القرآن. ويدعي الصوفية أنهم أخذوا خرقتهم من سلسلة من المشايخ يوصلونها أحياناً إلى الخضر وذلك لكي يصوِّروا أنفسهم بأنهم ينتسبون إلى الله وأنبياء الله. مثلاً، يقول الشيخ عبد الرحمن الجامي في كتابه «نفحات الأنس» (طبع طهران، 1336 هـ ش.، ص 547) إن محيي الدين بن العربي أخذ الخرقة عن شخصين: الأول عبد القادر الجيلاني، والثاني الخضر!!

إحدى الدلائل على كذب مثل هذا الادِّعاءات أن رسول الله J قال يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض. وبديهي أنه لو كان الخضر وإلياس حيَّيْن لكان الله سيُعبد من دون أصحاب أهل بدر.

([5]) يُراجَع كتاب الأخبار الدخيلة، الباب الثاني، ج1، ص235 فما بعد.