259. تأمُّلٌ في أحاديث الأبواب السابقة

كما لاحظنا في الأبواب السابقة (من الباب 170 فما بعد) جمع الكُلَيْنِيّ أخباراً ضعيفةً أغلبها عبارة عن رواية لعلم أحد الأئِمَّة بالغيب أو لمعجزات خارقة صدرت عن أحد أولئك الأئِمَّة الكرام طبقاً لادعاء الغلاة، وقد رُويت أضعاف تلك المعجزات والأعمال الخارقة لقوانين الطبيعة عن أقطاب التصوف وسائر صُنَّاع المذاهب. لكن المسلم المؤمن بالقرآن لا يستطيع أن يجعل من هذه الأخبار سنداً وأساساً لدينه. وكقاعدة نقول: إن الإخبار عن المُغيَّبات والقيام بأعمال خارقة للعادة وعجيبة - التي رُوي مثلها عن أصحاب الرياضات الروحية وممارسي اليوغا الهندوس - ليس من شروط ولاية المسلمين وإمامتهم، بل شرط الزعامة وقيادة زمام أمور المسلمين: الإيمان والعلم والعدالة والخبرة وحسن التدبير. في نظرنا لو كان الإمام عالماً بما كان وما يكون ومُطلعاً على ما في صدور الناس وضمائرهم لقام بدلاً من تلك المعجزات التي تُعجب الغلاة والخرافيين ببيان طرق معالجة الأمراض المُستعصية أو بيان الأمور المُفيدة في تقدم المسلمين وارتقاء مستواهم العلمي والعملي مما يُفيد أكثر الناس ويُحسِّن أحوالهم، حتى لا يحتاج المسلمون في هذه الأمور إلى اليهود والنصارى.

لما كان صُنَّاع المذاهب لا يملكون نصاً شرعياً على الإمامة الإلهية للأفراد الذين في ذهنهم؛ سعوا، من خلال وضع أخبار المعجزات ونسبة العلم بالغيب إلى تلك الشخصيات، إلى إثبات مشروعية إمامة أولئك الأئمة وإقناع عوام الناس بإمامتهم الإلهية (أي بأن الله هو الذي نصبهم في مقام الإمامة واختارهم له).

في نظرنا من الأفضل للناس أن يتعرّفوا ابتداءً على حقائق القرآن والإسلام كي يستطيعوا بعد ذلك أن يُميِّزوا ويُدركوا من هم الذين يدعون الناس إلى حقائق الإسلام وعقائده الحقة والصحيحة ومن هم الذين يريدون أن يركبوا على ظهور العوام!

وكما ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب وفي فصوله المختلفة ومن جملتها فصل «تذكير بمظلومية الأئمة عليهم  السلام» (ص 372) أو عند بياننا لعلة الغلو في حق الأئمة (ص 527-528) أو خلال بياننا لحال عَلِيٍّ البطائني وأعوانه (ص 190-191)؛ فإنَّه من الضروري أن نعلم أن أهل البيت الذين كانوا موضع تقديرٍ ومحبَّةٍ وإكرامٍ وإجلالٍ مِنْ قِبَلِ جميع الناس، وخاصةً منذ زمن حضرة الكاظم (أواسط القرن الثاني الهجري) فما بعد، أصبحوا موضوعاً لاستغلال أفرادٍ من طلّابِ الجاه والباحثين عن المنفعة، الذي سعوا إلى سوء الاستفادة من أولئك الأئِمَّة الكرام، وقاموا بخداع العوام، وفتحوا دكاكين متعددة للاسترزاق باسمهم([1]).

إن صُنَّاع المذاهب كانوا في البداية - لأجل الوصول إلى مآربهم ونيل الجاه والمال - يختارون أحد كبار أئمة أهل البيت فيطرحونه على أن الله تعالى هو الذي نصَّبه في منصب الإمامة هذا، ويخترعون له مقامات عجيبة وغريبة وينسبون إليه علم الغيب والاطلاع على ضمائر الخلق وما في صدورهم، ويضعون قصصاً وأخباراً تأييداً لادّعاءاتهم هذه!([2]) وبعدئذٍ كانوا يُثبتون لأولئك الأئمة الأجلاء حقوقاً ماليةً شرعيةً خاصةً من قبيل خُمس أرباح المكاسب وسهم الإمام([3]). ثم يُعرِّفون بأنفسهم تحت عناوين مختلفة مثل وكيل الإمام أو نائبه أو محرم أسراره أو مُمثله و ....... كي يصلوا من خلال انتسابهم إلى أولئك الأئمة إلى مآربهم الدنيوية الحقيرة، وفي الوقت ذاته لا يخطر على أذهان العوام أي فكر للاعتراض عليهم أو الشك في أعمالهم وأقوالهم!([4])

وكانوا يسعون كذلك - لكي يباعدوا بين من غرروا بهم وبين سائر أفراد المجتمع - إلى تصوير أن أئمة أهل البيت ماتوا إما مقتولين أو مسمومين على أيدي الخلفاء حتى في الحالات التي لا يوجد فيها أي دليل على وقوع ذلك لهم.

رغم أن الأئِمَّة الكرام كانوا ينتقدون مثل أولئك الأفراد ويعلنون البراءة منهم بل حتى يلعنونهم، إلا أنه بسبب عدم وجود وسائل إعلام في ذلك الزمن من مطبوعات أو إذاعة وتلفاز وغيرها، لم تكن كلمات أولئك الأئِمَّة الكرام تصل إلى مسامع جميع الناس، فكان الماكرون المخادعون يستغلون الفرصة ويخدعون عدداً كثيراً من العوام، وبعد مدة من الزمن وشيئاً فشيئاً بدأت موضوعات أولئك الماكرين تتسرّب إلى كتب الحديث كالكافي وكمال الدين و..... وانتشرت فيها حتى أصبحت مضامينها جزءاً من عقيدة الناس.

إن أهم عامل لانتشار أفكار أولئك المخادعين الماكرين عدم معرفة عامة الناس بالقرآن الكريم، وللأسف الشديد فإن هذه المصيبة العظمى لا تزال مستمرة حتى زماننا هذا والناس محرومون من معرفة تعاليم القرآن، ويسعى الشيوخ إلى أن يصوّروا أن فهم القرآن أمر عسير وأن للقرآن بطون متعددة ويقولون لا يمكن فهم القرآن دون الروايات والأخبار! وبهذا تركوا العوام بلا سلاح يدافعون فيه عن أنفسهم أمام هجمات الخرافيين، وإذا نهض شخصٌ ودعا الناس إلى التعرف على تعاليم القرآن والعودة إليه كالوا له أنواع التهم وأبعدوا العوام عنه!

وعلى كل حال، كما قلنا في الصفحات السابقة، سبيلُ نجاة الإسلام والمسلمين من مستنقع الخرافات الذي غرقوا فيه هو تعرّفهم على القرآن كي لا يتأثّروا بسهولة بالأخبار الخرافية وبكتب من قبيل «الكافي» وأمثاله.

بعد أن تعرّفنا على علة وضع أحاديث المعجزات والحكايات والقصص العجيبة والغريبة المنسوبة إلى أئِمَّة الدين الأجلاء؛ يجب أن نعلم أن أحاديث الباب 182 مثلها مثل أحاديث الأبواب السابقة مليئة بالخرافات! مع فارق أن أحاديث هذا الباب هي عن شخص لم يثبت حتى وجوده وهناك اختلاف في الآراء حول جميع المسائل المتعلقة به، لذلك لا بد من تذكرة حول هذا الموضوع:

إضافة إلى الأمور التي قلناها في مقدمة الباب 133 لا بد أن ننبه القراء الكرام إلى خدعة أخرى يتشبّث بها الخرافيون غالباً،  يقول الخرافيون، سعياً منهم إلى توجيه وتبرير الاختلافات الكثيرة حول ابن حضرة العسكري، إن مجرّد وجود اختلافات في تاريخ ولادته أو حول اسم أمه لا يجوز أن يكون سبباً في الشك في أصل وجوده!

والحال أن هذا القول ليس صحيحاً على الإطلاق. نعم، لو أن هذا الكلام قيل بشأن شخص ليس هناك شك أو ترديد في أصل وجوده وكانت هناك شواهد كافية على وجوده ولكن وقع الاختلاف في قضية أو مسألة أو أكثر من القضايا المتعلِّقة به لكان كلاماً مقبولاً. أما بشأن شخص لا يوجد اتفاق في الرأي على أي أمر يتعلق به بما في ذلك أصل وجوده فلا يصح ذلك القول.

وبالنسبة إلى ابن حضرة العسكري لا يوجد اتفاق في الآراء حول أي مسألة متعلقة به. فبمعزل عن أن أم حضرة العسكري أنكرت وجود حفيد لها فإن تاريخ ولادته ذُكِرَ بين سنة 252هـ  حتى 258هـ،  والشهر الذي وُلِد فيه ذُكِر بين ذي القعدة أو شعبان أو رمضان! كما اُدُّعِيَ أن عُمْرَه عندما تُوُفي حضرة العسكري كان سنتان وقيل خمس سنوات وقيل ثمان سنوات وقال بعضهم إنه وُلِد بعد ثمانية أشهر من وفاة والده! والأسماء التي ذُكِرَت لأمه هي: مريم بنت زيد، نرجس، سوسن، ريحانة، مليكة، خمط وصقيل! وبالنسبة إلى طريقة ولادته قال بعضهم إنه وُلِد من فخذ أمه!! وادّعى بعضهم أنه بقي في بطن أمه مدَّةً غير معروفة وبعد ذلك وُلِد!! واسم عمة حضرة العسكري التي قالوا إنها شهدت ولادة ابن أخيها كان «حكيمة» وقال بعضهم إن اسمها كان «خديجة»! وهكذا نجد أنه لا يوجد اتفاقٌ أو قول واحدٌ بشأن أيّ أمرٍ من الأمور المتعلقة بابن حضرة العسكري على الإطلاق!

أما النقطة المهمة الأخرى التي أَلْفِتُ نظر القراء الكرام إليها فهي أن أغلب أحاديث الباب 182 يتحدث عن أخذ المال من الناس باسم الإمام. ذلك المال الذي كان يصل في الواقع إلى الأشخاص الذين يدّعون النيابة والوكالة عن الإمام! عندما نقرأ أحاديث هذا الباب يبدو لنا وكأنّ الشغل الشاغل الأساسي للإمام كان مسألة سهم الإمام وكان الإمام يكتب رسالة تلو الرسالة يطالب فيها بسهم الإمام، والمثير أكثر أنه طبقاً للحديثين 23 و28 عندما كانت تصل أموال أكثر من سهم الإمام، أي زائدة عن المطلوب، إلى الناحية المقدَّسة، لم تكن تُعاد إلى أصحابها!! (فتأمّل).



([1])   للتعرف بشكل مجمل على عدد من تلك الفرق أو بالأحرى الدكاكين المذهبية راجعوا كتاب «شاهراه اتحاد» [طريق الاتِّحاد]، الصفحة 284 فما بعد.

([2])   وذلك كالقصص  والحكايات التي يرويها «أحمد بن إسحاق القمي» الذي ادّعى أنه نائب عن الإمام الهادي (ع)، وقد عرّفنا به في الكتاب الحالي، الصفحة 355.

([3])   ولهذا السبب نرى أن النبيّ الأكرم (ص) وحضرة علي والحسن -عليهما السلام - لم يكونوا يأخذون خُمس أرباح المكاسب من الناس. ومنذ زمن حضرة الكاظم (ع) أصبح الخُمس يوماً بعد يوم أكبر وأكثر أهميةً وتحول إلى حق مالي شرعي دائم كالزكاة واستمر أخذه من الناس حتى يومنا هذا!! وبدلاً من ذلك حصروا الزكاة التي جاء التأكيد عليها عشرات المرات في القرآن الكريم في تسعة أشياء فقط ووضعوا لها شروطاً معقدةً جعلت أداءها يُترَكُ شيئاً فشيئاً ولم يعد الشيعة يعتنون تلك العناية المطلوبة بأمر دفع الزكاة!!!

تغمَّد اللهُ تعالى المرحوم «قلمداران» برحمته الواسعة، إذ ألَّف كتاباً من جزأين باسم «حقائق عريان در اقتصاد قرآن» أي الحقائق الجليَّة في اقتصاد القرآن، ليوقظ الناس إلى أهمية الزكاة وحقيقة الخُمس.

([4])   لقد ادّعى عددٌ كبيرٌ يتجاوز الـ 20 شخصاً الوكالةَ عن الأئِمَّة! وكان منهم أشخاص من قبيل «عروة بن يحيى الدهقان» و «البلالي» (أي محمد بن علي بن بلال الذي عرّفنا به في الصفحة 853)، و «الشلمغاني» و«أحمد بن هلال العبرتائي» (راجعوا الصفحات 581  فما بعد ، وكان من أعوان عثمان بن سعيد العمري) الذين ذمَّهم الأئمة ولعنوهم.

في هذه الأيام وبسبب ضعف الشيخوخة والمرض أصبحت القراءة والكتابة عسيرةً عليَّ، ولم يعد لديّ كثيرٌ من الكتب والمراجع كي أذكر نماذج متعددة لأولئك الأشخاص، ولكن أحد الأمثلة التي لا تزال عالقة بذهني لأولئك الطفيليين الذي كانوا يعتاشون على أموال الناس، أذكر أشخاصاً من قبيل «أبي علي الصائغ» و «أبي الحسن بن ثُوَابَةَ» و «أبو عبد الله الجمال» و ...... كانوا يأخذون الأموال من الناس تحت عنوان أنهم وكلاء لجعفر بن علي الهادي (أخ حضرة العسكري)!! أو مثل نواب ووكلاء حضرة موسى بن جعفر (ع) وهناك أمثلة كثيرة على أمثال هؤلاء في القرنين الثاني والثالث ويُمكن لأهل البحث والتحقيق أن يجدوا الكثير من مثل هذا الخداع للعوام وغشهم باسم أئمة أهل البيت المظلومين.