8. ما العمل إذَن؟

ما العمل إذَن؟

4قد يسأل القارئ: إذا كانت رواياتنا على هذا الحال من الخلط والاضطراب فكيف يمكننا أن نستنبط الأحكام الشرعية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال دَعونا أولاً نطرح ادِّعاء الفقهاء ثم نُجيب عنه:

يدَّعي الفقهاء الإمامية أنه استناداً إلى قول رسول الله o: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْن كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي. ما إِنْ تمسَّكتُم بهما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي"([1])،  لا بُدَّ من أخذ الفقه الإسلامي من طريق أهل البيت عليهم السلام فقط!

غير أننا نلفت انتباه القراء الكرام إلى النقاط التالية بشأن هذا الحديث:

أولاً: هذا الحديث رُوي بلفظ: "كتاب الله وسُنَّتي"([2]) أيضاً، وهو لفظٌ أكثر تناسباً مع مقام بيان الحديث، ولا تترتب عليه الإشكالات التي سنذكرها بعد قليل.

ثانياً: لفظ «العِترة» مُبهمٌ، في حين أنه لا يجوز الإبهام والإيهام في مقام تبليغ الدين وتعليم الأحكام وإرشاد الناس وإتمام الحُجَّة على خلق الله الذي هو من مظاهر رحمة الحق تعالى، خاصةً في بيان المسائل الأساسية وأصول الشريعة المُهمة. وفي الحديث المذكور فإن لفظ «العِترة» جاء بمعنى «الأولاد والذُّرِّيَّة» وأيضاً بمعنى «أعضاء العائلة وأهل البيت». وبعضهم فسَّرها أيضاً بمعنى «الأقرباء القريبون» ([3]).

إذا أخذنا هذه الكلمة على معنى الأبناء، فعندئذ لن تشمل الكلمة الصهر وابن العم، في حين أنهم يعتبرون الإمامَ عليّاً u أكبر مصداق لهذا الحديث! وكذلك إذا اعتبرنا توسُّعاً أن الكلمة تشمل في معناها «الذُّريَّة» فما الدليل عندئذٍ على أن المُخَاطَبين يجب عليهم أن يعتبروا أن الحديث يشمل حضرات الحسنين عليهما السلام فقط وأن يُخْرِجوا من عمومه غيرهما من ذُريَّة النبيّo؟!

وإذا أخذنا كلمة «العترة» على المعنى الثاني أي أعضاء العائلة وأهل البيت فمن أين يفهم الناس أن عائشة وحفصة وأم سَلمة وأم حبيبة و....... لسنَ مقصودات من «العترة» فيه وأن المقصود حضرة الزهراء فقط؟! ومرَّةً أخرى لو توسَّعنا في معنى الكلمة واعتبرنا أن «الصهر» يدخل ضمن «العائلة وأهل البيت» (رغم أنه لا يبدو لنا مثل هذا الأمر جائزاً من ناحية اللغة) فلماذا يعتبر الصحابة أن المقصود من الحديث هو أمير المؤمنين عليّ u فقط؟ وأنه لا يشمل عثمان بن عفان وأبو العاص (صهري النبيّ o الآخرين)؟

وإذا أخذنا كلمة «العترة» على معنى «الأقرباء القريبون» (وهو أضعف معاني الكلمة) فمن أين يفهم الناس أن العباس عمَّ النبيّ o أو سائر إخوة أمير المؤمنين عليّ u والأقارب الآخرين للنبيّ o غير مشمولين بهذا الحكم؟

ثالثاً: لو كان النبيّ الأكرم o مُصرَّاً حتماً على استخدام كلمة «العترة»، لأضاف إليها رفعاً للإبهام جملةً من مثل: «عترتي المعصومين المُحَدَّثين([4])»، كي يُنزِّه الحديث عن الإشكالات التي أشرنا إليها أعلاه، وكي لا يظنَّ أحدٌ شمولَ الحديث لسائر من ذكرناهم أعلاه([5]).

رابعاً: كان كثيرٌ من صحابة رسول الله o موجودين في زمن صدور الحديث، وكانوا ممن جاهد تحت رايته o وتعلموا منه وكانوا مُطَّلعين بشكل كامل على أقواله وأفعاله o، فهل يُمكن التصديق بأن لا يذكر رسول الله o  –وهو مظهر الصدق والحق والإنصاف- أصحابه (من أمثال أبي ذر، وعمار، والمقداد، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود و........) بوصفهم حاملي سُنَّته أيضاً بل يكتفي بذكر حفيده صغير السنّ بوصفه الطريق الوحيد للوصول إلى سُنَّته النبوية؟!

5خامساً: إن هذا الكلام لا ينطبق مع الواقع لأننا نعلم أن أحد الأفراد الذين يعتبرونهم من مصاديق العترة - أي علي بن أبي طالب u- أخذ بعض أحكام السنة النبوية من أحد الصحابة. فالشيعة (سواء منهم الإمامية أم الزيدية) والسنة رووا جميعاً أن أمير المؤمنين عليّ u عرف حكم الطهارة من «المذي» من طريق المقداد بن الأسود([6]). كما ذُكر أن حكم العقاب بالتحريق بالنار وصل إلى حضرة الأمير u من ابن عباس([7]).

سادساً: لو كانت «العترة» هي الطريق الوحيد للوصول إلى السنة النبوية ومعرفة معاني كتاب الله، فلماذا لم يقم عليّ u -الذي اعتزل في بيته حسب قولكم 25 عاماً-، أو لم يقم الإمام الحسن u قبل شهادة أبيه أو بعد الصلح مع معاوية بتأليف كتاب في السنة وأحكام الشريعة أو إملائه على بعض الأفراد الموثوقين؟([8]) هذا في حين أن ابن حضرة السجاد u، أي زيد بن علي بن الحسين، رغم أنه كان مُلاحَقَاً مِنْ قِبَل الخلفاء، وأنه قُتِل شهيداً في نهاية الأمر، قام أحد تلامذته بجمع آرائه وأقواله في كتاب يُعرف اليوم باسم «مُسند الإمام زيد»، وهو في مُتناول أيدينا.

سابعاً: كما نعلم لقد وقع كثيرٌ من الدس والوضع والتخليط في أقوال أئمة أهل البيت، فلو كانت «العترة» هي الطريق الوحيد أو أهم طريق للوصول إلى سُنَّة آخر أنبياء الله، لقام الحق تعالى بحفظ أحكام آخر شرائعه التي تُناط بها سعادة البشر إلى يوم القيامة، على نحو أفضل، ولما سمح بتعرّض حَمَلَة السنة إلى كل هذا المقدار من التلف لما جمعوه([9]) أو الخلط والوضع حتى اضطر الفقهاء إلى الاعتماد على الظنّ والتخمين!

بعد أن بيَّنَّا ادِّعاء علماء الإمامية ومَحَّصْناه، نقول في الإجابة عن ذلك السؤال([10]) ما يلي:

حتى لو قبلنا حديث «الثقلين» على ذات النحو الذي يُحبُّه فقهاء الإمامية، فإن هذا الحديث لا يُفيد ذلك المعنى الذي يرى أنه يجب أخذ الفقه الإسلامي من طريق أهل البيت فقط، لأن القرآن المجيد يقول: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة/122].

فهذه الآية المُباركة تُبيِّن بصراحة تامة أن فقه الإسلام لم يكن ينتشر ويُروى للناس من طريق أهل البيت فقط، بل كان التعرُّف على أحكام الدين والتعلُّم من النبيّ الأكرم o مُتاحاً للآخرين أيضاً وكانت تأتي إلى المدينة جماعات مُختلفة من الناس - لم يكونوا معصومين- وكانوا يتفقَّهون في الدين ويُصبحون من أصحاب العلم به ويُصبح من الواجب عليهم بعد عودتهم إلى أقوامهم أن يُعلموهم علم الدين الذي تعلموه. فالقرآن الكريم إذن لم يعتبر التفقه في الدين والرجوع المُباشر إلى القرآن والسنة واستمرار دعوة الإسلام والتعليم والتعلم مُنحصراً ومُختصاً بجماعة خاصة، ولم يعترف بوجود واسطة بين الناس والشريعة سوى واسطة النبيّ o.

علاوةً على ذلك، فإننا نقرأ في التاريخ أن رسول الله o كان كثيراً ما يُرسل أصحابه إلى الأقوام المُختلفين لتعليمهم الدين وأحكام الإسلام. وإرسال «معاذ بن جبل» والآخرين، ومن جملتهم تلك الجماعة الكبيرة التي أرسلها رسول الله o إلى مناطق بعيدة لأجل تعليم الدين وأحكام الإسلام فقُتلت على أيدي المُشْرِكين في الحادثة الشهيرة بحادثة «بئر معونة» والجماعة الذين قُتلوا في حادثة «الرجيع» أمورٌ معروفة ومشهورة في تاريخ الإسلام ولا مُنكِر لها.

والحاصل: إن دين الله لم يكن يُبلَّغ بواسطة أهل البيت فقط، كي يكون الناس مأمورين بأن يأخذوا الفقه عنهم فقط، بل كان كبار الصحابة أيضاً الذين أمضوا سنوات عمرهم الطويلة برفقة النبيّ الأكرم e وكانوا خاضعين لتربيته وتعليمه e لهم، من مُبلِّغي الدين والدعاة إليه أيضاً. خاصةً أن قوله تعالى: ﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنبياء/109] يُثبت أن النبيّ الأكرمe الذي أكرمه الله بوسام فخار ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [التكوير/24] لم يكن يُخفي عن أحد أمور الشريعة التي تُناط بها هداية الناس، ولم يكن يضعها في مُتناول عدد خاص من أسرته فحسب.

كان رسول الله o يقول بعد خطبه: "فَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغَّائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامعٍ"([11])، وَكان o يقول كذلك: "نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا، سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ بَلَّغَهَا عَنِّي، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ"([12]).

لاحظوا أن النبيّ الأكرم o لم يجعل تبليغ علم الشريعة ونقل الأحكام مختصَّاً ومُنحصراً بفئة أو أشخاص مُحدَّدين.

بِنَاءً عَلى ذَلِكَ، لا بُدَّ من الرجوع إلى من بقي من الصحابة للتعرّف الصحيح على الفقه الإسلامي وأن لا نعتبر أنفسنا –دونما دليل- في غنى عنهم، كما أننا يجب أن نُحقق بدقة في أحاديث أهل البيت، ومن جملتهم الإمام زيد رحمه الله ابن الإمام السجاد التي دُوِّنت وحُفظت في كتب الزيدية، وأحاديث سائر أئمة أهل البيت التي حُفظت وضُبطت سنداً ومتناً في كتب الإمامية، ونقارنها مع القرآن الكريم وندرس الفقه الإسلامي على نحو جامع الأطراف.

ولا يفوتنا القول: إنه استناداً إلى إقرار علمائنا، فإن أئمة أهل البيت كانوا في الغالب في حال التقية بسبب جور الخلفاء الأمويين والعباسيين، ولم يكونوا يُظهرون آراءهم بصراحة إلا قليلاً، والأمر الذي لا ريب فيه أنه لا يوجد لدينا أي كتاب مُدوَّن عن الأئمة في الفقه وأحكام الشريعة، وأن كُتُبَ فِقْهِنَا ورِوَايَاتِنَا دُوِّنت بعد عصر الأئمة، واحتوت للأسف أخباراً متعارضة ومتخالفة يناقِضُ بعضها بعضاً، وكما ذكرنا في الصفحات السابقة وقع كثيرٌ من الوَضْع والدسّ والخلط في أحاديث الأئمة. وللأسف لقد افتروا على أئمة أهل البيت عليهم السلام أكثر مما افتروه على الآخرين، ومُؤلفو كتب الأخبار أيضاً لم يكونوا فقهاء من أصحاب النظر ولا كان لهم علمٌ عميقٌ بالقرآن الكريم فدوَّنوا وسجَّلوا كل ما وصل إلى أيديهم سواءً كان صحيحاً أو غير صحيح. وهذا خلافاً للشيعة الزيدية الذين يمتلكون بين أيديهم كتاب «المُسند» أو «المجموع الفقهي» المروي عن الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي أملاه على تلميذه «أبو خالد الواسطي» رحمه الله. كما بقيت عن أئمة أهل السنة - الذين كانوا من مُحبي أهل البيت ولم يكونوا حقيقةً على صلة جيدة بخلفاء الجور([13]) – كتباً هي من تأليفهم المُباشر منها «المُوطأ» تأليف الإمام مالك، أو «الأم» تأليف الإمام الشافعي، أو «المُسند» جمع الإمام أحمد بن حنبل و.......... ([14]).

نعم، على إثر بروز المشاكل التي تحدثنا عنها، اضطر الفقهاء المتأخِّرون، خلافاً لفقهاء السلف من الشيعة الذين لم يكونوا يحتجُّون بـ«خبر الآحاد» غير المحفوف بالقرائن([15])، اضطرَّ  المتأخِّرون للتمسك في أحكام الشرع بالعمل بخبر الواحد وأن يعتبروه حُجَّةً، حتى أنهم أخذوا يُخَصِّصُون به آيات القرآن الكريم البينات!!  وقد اعترفوا بالطبع أن حجية خبر الواحد هي في مورد انسداد باب العلم، أي أنه لما كان باب العلم ببعض الأحكام الفرعية مسدوداً بزعمهم، فإنهم اتجهوا إلى العمل بالظن واضطرُّوا للاكتفاء بخبر الواحد الظني([16])!

ولكن خلافاً لظن العلماء فإن باب العلم - بحمد الله تعالى- لم ينسد، لكن بشرط أن يقوم الفقهاء بالتحقيق في المسائل الشرعية على النحو الذي بيَّنَّاه.

ذلك أننا إذا رأينا رواية قد رُوِيت من طرق مختلفة وبأسانيد متفاوتة فإننا سنطمئن بالطبع إلى صدورها من جانب الشارع، لكن الفقهاء - عملاً بمبدأ ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم/32] - لا يريدون أن يسيروا في هذا الطريق ويريدون الاكتفاء بأخبار الآحاد والروايات الضعيفة والظنية، وأحياناً يصلون من خلال ذلك إلى نتائج عجيبة وغريبة!

إن مشكلات فقهنا لا تنحصر بالطبع بما ذكرناه، بل إن كاتب هذه السطور، من خلال تجربتي الشخصية، إذ أمضيتُ سنوات طويلة من عمري في الحوزات العلمية، اعتقد أن هناك موارد كثيرة جداً لا موجب للاختلاف فيها سوى التعصب المذهب والأنس بالعادات والعقائد الموروثة وحب الجاه والاسترزاق بالدين، وبكلمة واحدة أن سبب هذه الخلافات هو «بغي» العلماء بينهم الذي أشار إليه تعالى في سورة الجاثية (الآية 17)([17]) إذ ينفخ العلماء في نار التفرقة وأحياناً يفتون خلافاً للمدلول الصريح للمستندات والدلائل التي لديهم - بالطبع بعد القيام بأنواع من التأويلات والتوجيهات الباردة والحجج الضعيفة - ويضلون العوام بذلك([18]). أحد النماذج الواضحة تماماً بل الفاضحة على هذا الأمر (أي اختلاف الفقهاء بسبب بغي بعضهم على بعض) مسألة الشهادة الثالثة. فكما ذكر العلامة «محمد تقي الشوشتري» بعد أن أورد الشيخ الصدوق في كتابه «من لا يحضره الفقيه» (ج1/ص290-291) فصول الأذان كما يرويها عن الإمام الصادق u، قال:

"هَذَا هُوَ الأَذَانُ الصَّحِيحُ لا يُزَادُ فِيهِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالْمُفَوِّضَةُ لَعَنَهُمُ اللهُ قَدْ وَضَعُوا أَخْبَاراً وَزَادُوا بِهَا فِي الأَذَانِ مُحَمَّدٌ وَآلُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مَرَّتَيْنِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِمْ بَعْدَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ أَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً وَلِيُّ اللهِ مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى بَدَلَ ذَلِكَ أَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقّاً مَرَّتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَلِيّاً وَلِيُّ اللهِ وَأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقّاً وَأَنَّ مُحَمَّداً وَآلَهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَلَكِنْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي أَصْلِ الأَذَانِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّهَمُونَ بِالتَّفْوِيضِ الْمُدَلِّسُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي جُمْلَتِنَا([19])".

ورغم أن الشيخ الطوسي المُلَقَّب بـ «شيخ الطائفة» ذكر في كتابه «تهذيب الأحكام» في الباب السابع من كتاب الصلاة: أي باب فصول الأذان والإقامة، الروايات من 2 إلى 5، ورغم أنه نقل في هذا الباب أموراً مختلفة حول فصول الأذان، وأعطى توضيحات حولها، ورغم أنه بحث في موضوع قول أو عدم قول "الصلاة خير من النوم"، فإنه لم يُشِر أدنى إشارة إلى الشهادة الثالثة!([20])

ونقرأ في كتاب «شرح اللمعة» -ومتنه للشهيد الأول وشرحه للشهيد الثاني - ما يلي:

"ويكبر أربعاً في أول الأذان ثم التشهدان بالتوحيد وَالرسالة- ثم الحيعلات الثلاث ثم التكبير ثم التهليل- مثنى مثنى فهذه ثمانية عشر فصلاً.  وَالإقامة مثنى‏ في جميع فصولها، وَهي فصول الأذان إلا ما يخرجه. وَيزيد بعد حي على خير العمل قد قامت الصلاة مرتين، وَيُهلِّل في آخرها مرة واحدة ففصولها سبعة عشر تنقص عن الأذان ثلاثة وَيزيد اثنين؛ فهذه جملة الفصول المنقولة شرعاً- وَلا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول- في الأذان وَالإقامة كالتشهد بالولاية لعلي u وَأن محمدا وَآله خير البرية أو خير البشر- وَإن كان الواقع كذلك، فما كل واقع حقّاً يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعاً المحدودة من الله تعالى، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وَتشريعاً كما لو زاد في الصلاة ركعةً أو تشهداً أو نحو ذلك من العبادات، وَبالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان.  قال الصدوق: إن إدخال ذلك فيه من وضع المفوضة وَهم طائفة من الغلاة([21])..."([22]).

وكتب العالم الشيعي الشيخ «عبد الجليل القزويني» في القرن السادس الهجري يقول:

"رغم أن الشيعة يعتبرون علياً عليه السلام إماماً منصوصاً عليه وأفضل الأمة، إلا أن مذهبهم أنه لو زاد شخص في فصول الأذان بعد الشهادتين جملة أشهد أن علياً ولي الله فإن الأذان يبطل ولا بد من إعادته، ووضع اسم علي في أذان الصلاة بدعة والاعتقاد به معصية([23]) وقائله متعرض لغضب الله ولعنته".([24])

وفي كتاب «شرائع الإسلام» [للمحقق الحلي] أيضاً لا نجد أي إشارة إلى الشهادة الثالثة وقد كتب الشهيد الثاني في كتابه «مسالك الأفهام إلى شرح شرائع الإسلام» حول رأي المحقق الحلي في عبارة «الصلاة خير من النوم» يقول:

"(قوله: «وكذا يكره قول الصلاة خير من النوم»): بل الأصح التحريم لأنّ الأذان وَالإقامة سنّتان متلقّيتان من الشرع كسائر العبادات، فالزيادة فيهما تشريع محرّم كما يحرم زيادة «محمد وَآله خير البريّة» وإن كانوا عليهم السلام خير البريّة"([25]).

ولكن اليوم، لو رجعتم إلى أي رسالة عملية مما يسمى بـ«توضيح المسائل» فسوف ترون أنهم (أي فقهاء الإمامية) يعتبرون قول الشهادة الثالثة في الأذان مستحباً!! أي أن الجملة التي لم تكن جزءاً من الأذان - طبقاً لمستندات الشيعة أنفسهم فضلاً عن مستندات الفرق الأخرى- وكان الذين أدرجوها في الأذان يُعتَبرون ملعونين لدى بعض الشيعة، أصبح قولها في زماننا، بسبب طبيعة التفرقة المذهبية للمسترزقين بالمذهب، أمر مستحسناً!!!

بالطبع هناك كثير من أمثال هذه العورات في فقهنا، ومنها وقت الغروب الشرعي ([26])، والجمع بين الصلوات دون سبب، والكثير من المسائل الأخرى التي لا مجال لطرحها الآن ونكتفي بالنماذج التي ذكرناها.

ولا يخفى أن كثيراً من العلماء يطلقون شعارات البحث عن الحقيقة ويدَّعون ادِّعاءات يخدعون بها الكثيرين ويُعَجب بها الكثيرون، لكن فعل أولئك العلماء يخالف قولهم!!

لعلكم سمعتم كثيراً على المنابر أو قرأتم في كتب بعض العلماء المعروفين قولهم: "إن واجب العلماء في عصر ختم النبوة هو محاربة تحريف الدين... إن واجب العلماء هو أن يبينوا للناس الحقائق دون إبهام ويقولوا للناس الحقيقة ولو كان ذلك سيسوؤهم. واجب العلماء هو أن يحاربوا الأكاذيب،. واجب العلماء هو أن يفضحوا الكاذبين. إن الفقهاء يذكرون أمراً في باب الغِيبِة، يقولون هناك بعض الحالات تستثنى فيها حرمة الغيبة، إحدى هذه الموارد لجواز الغيبة وهو مورد يستخدمه العلماء الكبار جميعاً ويعتقدون أنه ضروري جداً بل أحياناً يرون وجوبه هو «جرح الراوي». ماذا يعني جرح الراوي؟ يعني إذا روى شخص حديثاً عن النبي أو روى شخص حديثاً عن الإمام، هل نقبل روايته على الفور؟ كلا، لابد أن نحقق في حال ذلك الراوي كيف هو؟ هل كان صادقاً أم كاذباً؟..."([27]).

لكن العجيب أنه لو قال شخص اليوم كلمة الحق وأظهر الحقائق وأراد أن يوقظ الناس ويوعِّيهم - كما جربت ذلك بنفسي - فإن العلماء لا يكتفون بعدم تأييده والدفاع عنه وتركه وحيداً أمام العوام فحسب، بل إنهم يُبعدون العوام عنه من خلال اتهامهم له بشتى التهم، وَإن لم يفتروا عليه بأنفسهْم فإنهم يسكتون أمام من يسيئون القول في حقه ولا يظهرون علمهم وفي الواقع يِصوِّبون البدع بسكوتهم هذا!!



([1])   أخرجه بنحو هذا اللفظ أو بألفاظ مقاربة: الإمام مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، ح(37)، والدارمي في مسنده، كتاب فضائل القرآن، باب 1، وابن أبى شيبة في المصنَّف، 6، 133، رقم (30081)، وابن سعد في الطبقات الكبرى، 2، 194، والتِّرْمِذِي في سننه (3786) و(3788)، والنَّسَائِي في السنن الكبرى، (8092) و(8410)، والإمام أحمد في مسنده، 1، 118، و3، 14، و3، 17،  و3، 26، و3، 59، وأبو يعلى في مسنده، 2، 297، رقم (1021)، وغيرهم. وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي: "اعلم أن لحديث التمسُّك (بالثقلين) طرقاً كثيرةً وردت عن نيِّفٍ وعشرين صحابياً". (الصواعق المحرقة، ص 150).

([2]) أخرجه مالكٌ مرسلاً في الموطَّأ، 2، 899، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1، 171-172، رقم 318- 319) عن أبي هريرة، و البيهقي في السنن الكبرى، (10، 114رقم 20124)، والدارقطني (4، 245). وصَحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2937) و (3232).

([3]) بعض الكتب فسَّرت كلمة «عترة الرجل» بمعنى «رَهْطه وعشيرته الأدنون ممن مضـى وغَبَر». وبالطبع هذين المعنيين لا يُعجبان علمائنا.

([4])   «المُحدَّث» بالمعنى الذي جاء في الباب 60 من «الكافي» يُراجع ج1، ص 176 منه.

([5])   من الجدير بالذكر أن الشيخ «عبد الجليل القزويني الرازي» (من علماء الإمامية في القرن السادس الهجري)كتب في كتابه «نقض الفضائح» بشأن إبلاغ الشريعة المحمدية ما يلي: "... لا حاجة للمعصوم لأجل قبول الشرعيات بعد بعثة رسول الله o وظهور المعجزات الدالة على صدقه، إذ من اللازم تحصيل المعارف الشرعية من كتاب الله والأخبار المتواترة وإجماع الأمة، ومثالُ هذه المسألة: أن يوجد في عهد حضور الإمام في مكة أو في المدينة أو في الكوفة، علماءٌ وفقهاءٌ يتعلم العوام منهم الشريعة وإن لم يكونوا معصومين، فليست العصمة شرطاً في تعليم الشريعة وهذا المعنى معلومٌ ومفهومٌ من كتب الشيعة خلفاً عن سلف، ولا يُمكن إبطاله بثرثرة وهذيان مُداهن مُبتدع. والحمد لِـلَّهِ ربِّ العالَمين". (نقض الفضائح، انتشارات انجمن آثار ملي، ص135).

([6])   الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص197 و199. والميرزا النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج1، ص32. والحافظ عبد الرزاق الصنعاني –وكان من قدماء الشـيعة-، المُصنَّف، ج1، ص156. ومُسند الإمام زيد، كتاب الطهارة، باب الغسل الواجب والسنة، الحديث الخامس. و منصور بن علي ناصف، التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ج1، ص87.  

([7]) التاج الجامع للأصول، ج3، ص78، ويُراجع أيضاً كتاب «شاهراه اتحاد» أي طريق الاتحاد، للأستاذ حيدر علي قلمداران، ص228.

([8]) لا يوجد في التاريخ أي إشارة إلى قيام أولئك الأئمة الكرام بمثل هذا العمل.

([9]) مثل مكتوبات «محمد بن أبي عمير الأزدي» التي جمعها من أقوال الأئمة عليهم السلام وأخفاها فتلفت وضاعت!

([10])  إجابتنا هنا هي رأي ووجهة نظر أخينا العزيز والمُفسِّر الذي لا نظير له للقرآن الفقيه المُتبحِّر جناب «السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي» -أيَّده الله تعالى- التي سمعتها منه مراراً في المُباحثات العلمية وهو رأيٌ أعتقد به وأُؤمن به تماماً من صميم قلبي، وآمل أن يلقى الانتباه والتأمل الجدي مِنْ قِبَل إخوتنا في الإيمان.

([11])  حديث مشهور رواه جُلّ المُحدِّثين، فأخرجه مثلاً البُخَارِي في صحيحه، 2، 215(1739).

([12])  أخرجه أحمد في المسند، 3، 225، وابن ماجة في السنن، (236) وغيرهما.

([13])  راجع حول هذا الموضوع كتاب «شاهراه اتِّحاد» (أي طريق الاتِّحاد) تأليف جناب الأستاذ «قلمداران»، ص 164.

وأذكر هنا كدليل على محبة أئمة أهل السنة لأهل البيت - عليهم السلام - شاهدين على سبيل المثال أنقلهما من كتاب الشيخ «عبد الجليل القزويني الرازي». كان الشيخ عبد الجليل من علماء الشيعة الإمامية الكبار في القرن السادس الهجري، و قد ألف كتابه في الدفاع عن مذهب التشيّع و الردّ على أحد كُتَّاب أهل السنة وسمَّى كتابه: «بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض». ويقول في (ص 159) عن أبي حنيفة: "... وفضلاء أصحاب أبي حنيفة يعلمون أن أبا جعفر المنصور قتل أبا حنيفة بسبب ولائه لآل الرسول وحبه لهم..... وقد روى [أبو حنيفة] عن محمد الباقر وجعفر الصادق وكان موحداً وعدلياً ومتولياً لآل المصطفى وانتقل إلى جوار رحمة ربه". واعتبر الشافعيَّ كذلك من محبي أهل البيت.

ولكننا سوف ننقل هنا مطلباً من حاشية ذلك الكتاب (ص 160):

"يقول ابن النديم في الفن الثالث من المقالة السادسة من كتابه الفهرست: "وكان الشافعي شديداً في التشيع، وذكر له رجل يوماً مسألةً فأجاب فيها، فقال له: خالفتَ عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه! فقال له: ثبِّت لي هذا عن عليِّ بن أبي طالب حتى أضع خدي على التراب وأقول قد أخطأتُ وأرجع عن قولي إلى قوله.  وحضر ذات يوم مجلساً فيه بعض الطالبيين فقال: لا أتكلم في مجلس بحضـرة أحدهم هم أحق بالكلام ولهم الرياسة والفضل".

([14])  قمت بتأليف كتابٍ مفصَّلٍ في هذا الأمر - تسهيلاً لعمل المحققين - سمَّيْتُهُ: "جامع المنقول في سنن الرسول".

([15])  لم يكن قدماء الشيعة يعتمدون خبر الواحد، حتى أن «محمد بن إدريس الحلي » اعتبر في كتابه «السرائر» (ص5، قم، المطبعة العلمية) أن أخبار الآحاد من عوامل هدم الإسلام.

([16])  إن السبب في عدم إمكانية الاعتماد على «خبر الواحد» هو أننا لا نستطيع أن نتيقَّن أن راويه لم يكذب، وحتى لو افترضنا أننا تأكَّدنا واطمأننا إلى صدقه، فإننا لا نستطيع أن نجزم على وجه القطع أنه لم يُخْدَعْ بظاهر راوٍ آخر أو لم يقع دون قصد في سهوٍ أو نسيان.

وقد ألف آية الله «سيد محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني» كتاباً ضخماً في عدم حجّيّة الظنّ، وللأسف لم يتيسَّر له طبعه ونشره حتى الآن!  [أقول (المُتَرْجِمُ): لقد طُبِعَ الكتاب فيما بعد، أي في عام 1378 هجرية شمسية (الموافق لـ 1999م) في طهران مُتَرْجماً إلى الفارسية (ترجمه الدكتور سيد علي أصغر غروي)، وعنوانه: (پيرامون ظن فقيه و كاربرد آن در فقه) أي: "حول ظن الفقيه واستعماله في الفقه" ويقع في 587 صفحة، وقد اشتريتُ نسخةً منه].

([17])  وهي قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ...﴾ .

([18])  لقد صدق الملا أحمد النراقي في قصيدته التي قال فيها:

على رأس كل زقاق صيادون
إن كانت الصحاري مليئة بالسارقين
ففي الصحراء يسـرقون اللباس والخبز
إن علم الفقه وأحكامه أيها الولد
لكنه أصبح اليوم خيالات
إن الفقه جيد ولكن لأجل العمل

 

المسجد والمحراب مليء بالدجالين
فإن سُرَّاق المدينة أسوء من سُرَّاق الصحراء
وفي المدينة يذهبون بإيمان الناس
وإن كان علماً معتبراً عند أهل الإيمان
وأصبح سداً للطريق ومانعاً للكمال
لا لأجل البحث والتعريف والجدل

 

([19]) أورد الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة، الجزء الرابع، فصل كتاب الصلاة، الباب 9 (باب كيفية الأذان والإقامة وعدد فصولهما...): ثمانية أحاديث (بأرقام: 5، 6، 8، 9، 10، 14، 18، و 19) حول فصول الأذان والإقامة، ولا توجد الشهادة الثالثة في أيٍّ من تلك الأحاديث، ثم نقل الحر العاملي كلام الشيخ الصدوق الذي أوردناه في المتن (أعلاه) في ص 648 و 649.

([20]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، طهران، دار الكتب الإسلامية، "باب عدد فصول الأذان والإقامة و وصفهما" ج2، ص 59 فما بعد.

([21]) الشهيد الثاني، زين الدين بن علي بن أحمد العاملي‏ (ت 966هـ)، شرح اللمعة الدمشقية، انتشارات جهان ومكتبة الطباطبائي، ج1، ص 105 - 106.  أو الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، (الطبعة القديمة في مجلدين من القطع الكبير)، ج 1، ص 70. (المُتَرْجِمُ)

([22])  لا يخفى أنه على الرغم من أن الأئمَّة - عليهم السلام - لم يُشيروا أدنى إشارة إلى الشهادة الثالثة، وحتى أن الشيخ الصدوق لَعَنَ الذين أضافوا هذه الشهادة إلى الأذان، واعتبرها من إضافة غير الشيعة [الذين اندسوا زوراً بينهم]، لكن الشيخ الطوسي ذكر في كتابه «المبسوط» - دون أي دليل شرعي - أن ذكر هذه الشهادة الثالثة في الأذان لا إشكال فيه!!  وتَبِعَهُ في ذلك مؤلف اللمعة وشارحها. ولا أدري كيف لا يكون في العمل بالبدعة أيُّ إشكالٌ شرعيٌّ؟!  ولا ريب أن القول الذي لا دليل عليه، لا حُجَّة فيه أيَّاً كان قائله.

([23])  أي الاعتقاد بأن الشهادة الثالثة جزء من الأذان وقولها في الأذان بهذه النية، عندئذ يعد قولها معصية.

([24])  النقض، انتشارات انجمن آثار ملي، ص97.

([25])  الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج‏1، ص 190.

([26])  ألف آية الله السيد الموسوي الغروي الأصفهاني رسالة حول وقت الغروب الشرعي استناداً إلى الأدلة والمستندات الشيعية آمل أن يتيسر له نشرها وما ذلك على الله  بعزيز.

([27])  مرتضى المطهري، حماسهىِ حسينى، [الملحمة الحسينية]، باب وظيفتنا في مواجهة التحريفات، طهران، انتشارات صدرا، ج1، ص104 - 105.