129. هل آدم خليفة الله؟

اعلم أن مسألة الخلافة الإلهية، وكون الإنسان خليفة الله في الأرض أو الأئمة خلفاء الله، من الخرافات التي شاعت بين بعض المسلمين إلى درجة أنه تمّ الاستناد بشكل خاطئ إلى آيات من القرآن - بما في ذلك الآيات 30 إلى 34 من سورة البقرة - لتدعيم هذه الخرافة. الآية المذكورة تقول ما يلي: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة/30].

أولاً: من الناحية اللغوية يُقال لكل من يأتي خلف الآخر بشكل متوالي ويحل محله سواء كان فرداً أم جماعةً «خليفة». لأن كل واحد من هؤلاء يأتي خلف الآخر ويأخذ مكانه. كما سُمِّيَ الليل والنهار الذي يحل كل منهما محل الآخر بشكل متوالي «خلفة»، فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان/62]. وخاطب الله البشر قائلاً: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام/165]، وقال كذلك: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ [فاطر/39]، وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ 13 ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14﴾ [يونس/13-14].

فكما تلاحظون بشكل واضح، أُطلِق في هذه الآيات على الناس لفظ الخليفة (بصيغ الجمع: أي خلائف) لأنهم يحلّون في الأرض محل من كانوا قبلهم. فإذا اعتبرنا أن المقصود من «الخليفة» من يخلف الله، فإن القرآن ما كان يعتبر الناس خلفاء الأمم التي سبقتهم.

وقال القرآن الكريم عن المؤمنين بنوح u: ﴿... فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [يونس/73].

وقال هود u لقومه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾  [الأعراف/69]، وقال أيضاً: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ [هود/57].

وقال نبي الله صالح u لقومه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ﴾ [الأعراف/74].

وقال موسى u لقومه: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف:129].

وقال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾  [مريم/59]. وخاطب داود u قائلاً: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ [ص/26].

وخاطب القرآن المسلمين المعاصرين للنبي J قائلاً: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام/133].

إن كل عاقل منصف يفهم بكل بساطة أن هؤلاء الخلفاء حلّوا محلّ من كان مثلهم ومن بني جنسهم، فمثلاً لا شك أن داود u خلف في حكم الناس ظالمين من قبيل «جالوت» الذي كان يتّبع هوى نفسه في حكم الناس، لا أنّ داود خلف الله عز وجل. ولو كان القصد أنه خلف الله لوجب على القرآن الذي نزل بلسان قوم النبي J أن يأتي بقرينة في الآية تصرف الذهن عن المعنى اللغوي القريب لها، في حين أنه لا يوجد في جميع الآيات التي ذكرناها أي قرينة تستدعي انصراف الذهن عن المعنى القريب ولذلك على من يدّعي أن المقصود من الآية شيء غير المعنى المتبادَر من لفظها أن يأتي بالدليل ويقيم البيّنة على دعواه.

ثانياً: إن المقصود من «خَلِيْفَة» نسل الإنسان الذين يتوالون ويحل كل فريق منهم محل الآخر كما يحل الليل محل النهار وبالعكس. والأهم من كل ذلك أن  لفظ «خليفة» لم يُضَف إلى لفظ «الله»، كما لم يُضِفْهُ الله لنفسه كأن يقول في الآية «خليفتي» أو «خليفتنا» أو «خليفة لي» أو «خليفة مني» ونظائر ذلك.

ثالثاً: إذا كان المراد من كلمة «خَلِيْفَة»: «خليفةَ اللهِ» لما استشكل الملائكة قائلين: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة/30]، لأن المفسد في الأرض والذي يسفك الدماء لا يستحق أن يكون خليفةَ اللهِ وليس أهلاً لذلك، ولا ريب أن الله يختار موجوداً أفضل لخلافته. هذا في حين أنّه يُفْهَم من سؤال الملائكة وجواب الله أنه لم يكن المراد من «خَلِيْفَة» شخص آدم (ع) فقط بل ذريته كلها، الذين سيأتي منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماءَ فيها، وإلا فلو كان المقصود آدم (ع) فقط - ونظائره - لأجاب الله تعالى قائلاً: «إنه لا يفسد فيها ولا يسفك الدماء» لأن آدم (ع) لم يكن لا مفسداً ولا سفّاكاً، لكن الله تعالى صدّق قول الملائكة، كل ما في الأمر أنه اعتبره ناقصاً وقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة/30]، أي رغم أنّ «الخَلِيْفَة» يمكنه أن يفسد ويسفك الدماء لكنني أرى في خلقه مصلحةً لا تعلمونها.

رابعاً: جاءت كلمة «خليفة» نكرةً محرَّكةً بالتنوين ولم تأتِ بألف ولام التعريف حتى نقول إنها أُطلِقَت على النبي أو الإمام أو أشخاصٍ معيَّنين.

خامساً: كيف يستطيع إنسان - حتى النبي والإمام - أن يكون خليفةً لِـلَّهِ تعالى الذي هو: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن/29]، ولم يتخلَّ عن تدبير العالم ولم يترك العالم لغيره ولم يكن بحاجة إلى مكان، ولم يخلُ مكان من حضوره وإحاطته سبحانه وتعالى، لذلك قال تعالى: ﴿هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد/4].

إن أرفع مقام للبشر وأعلاه هو مقام النبوّة، ولكن حتى هذا المقام الشامخ أيضاً ليس منزَّهاً عن الضعف أو الوقوع في الخطأ والاشتباه. إن الإنسان الذي يمرض إن لم يستطع التَّبَوُّل ويعانى من الآلام المبرحة، والذي يموت إن لم يأكل الطعام، والذي تقضي عليه حُمَّى، مثل هذا البشر حتى في أعلى وأسمى مرتبة له، أي مقام النُّبُوَّة، لا يستطيع أن يتحمّل أو يطيق تجلياً واحداً من تجليات الله عليه، بل يخر مصعوقاً مُغْمىً عليه (الأعراف/143)، ولا يعلم ماذا يُفعَل به، ويُقِرُّ قائلاً: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف/9]، ويقع في الخطأ، فمثلاً حضرة موسى u لم يكن يقصد أبداً قتلَ الرجل القبطي ولم يستطع أن يتحكَّم بشدة الضربة التي ضرب القبطي بها فأودت بحياته (القصص/15)، ولو لم تكن رقابة الله وتحذيره في الوقت المناسب لوقع في الخطأ (التوبة/43)، مثل هذا الكائن لا يمكنه أن يكون خليفة الله في الأرض.

سادساً: فإن قال شخصٌ خداعاً للعوام: رغم أن الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، إلا أنه قال لنا مراراً في كتابه العزيز: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة/117]. ورغم أنه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة/20] إلا أنه أوكل تنفيذ كثير من أمور عالم الخليقة إلى الملائكة، فما المانع أن يوكل أمر عِمَارة الأرض إلى البشر ويعتبرَ الإنسانَ خليفَتَه على الأرض من هذه الزاوية؟

قُلنا في الإجابة: أولاً: لم يفعل الله ذلك، وكما قلنا لم يقُل عن الإنسان: «خليفتي» أو «خليفتنا» أو نحو ذلك.

ثانياً: لا يُقال للملائكة المأمورين بتحقيق إرادة الله في كثير من أمور عالم الخليقة - ومن جملته عالم الأرض - «خليفة»، لأنه لابُدَّ ليتحقَّق معنى الخلافة من نوع من غياب «المُسْتَخْلَفِ عَنْهُ» وَتَنَحِّيهِ جانباً وعدم حضوره، حتى يحل موجود آخر محلَّه أو يقوم بعمله، وإلا إن لم يتحقق مثل هذا الشرط فلا يُقال لمن يُنفِّذ أوامر الآخر خليفةً له بل يُقال إنه مأمورٌ له أو عاملٌ من عمَّاله، أو ممثلٌ عنه أو....الخ، وبناءً عليه، فلو أن الأمر كان كما تقولون، فكما لا يُقالُ للملائكة «خليفة الله»، لا يُقال للبشر - حتى الأنبياء - «خليفة الله في الأرض»، بل أقصى ما يمكن قوله: إن الملائكةَ عُمَّالُ الله أو مأموروه أو... الخ.

 سابعاً: إن قيل إن الإنسان كُرِّمَ كثيراً في القرآن وقال تعالى عنه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء/70].

قلنا: نحن أيضاً نؤمن من كل قلوبنا أن مقام الإنسان في عالم الخليقة رفيعٌ وعالٍ جداً. لكن هذه الآية ذاتها مخالفة لقولكم، لأنها لا تقول إننا فضلنا البشر على جميع المخلوقات بأسرها، بل تقول إن البشر فُضِّلوا على «كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا» لا على جميع من خلقنا، في حين أنه لو كان الإنسانُ خليفةَ اللهِ لكان مُفَضَّلاً بالتأكيد على جميع المخلوقات.

بناء على ذلك، يَتَبَـيَّنُ معنا أن القول بأن الإنسان «خليفة الله» في الأرض، لا علاقة له بالقرآن الكريم، ولا سند له فيه، إلا أن يقوم رواةٌ من أمثال «مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ» وَ«مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ» وَ«عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ»([1]) بصناعة خليفةٍ لِـلَّهِ تعالى!!

وللأسف فإن وضَّاعي الروايات والزيارات كثيراً ما يذكرون في زياراتهم - استناداً إلى أمثال هذه الأحاديث الموضوعة - مخاطبة الأئمَّة بعبارة: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ اللهِ!!"([2]).

ß الحديث 2 - درسنا هذا الحديث ونقدناه في الصفحات 311- 312 من هذا الكتاب فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ. وبالنسبة إلى جملة: "وَلَوْلَاهُمْ مَا عُرِفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ" في الحديث، راجعوا ما ذكرناه في نقد الحديث السادس من الباب 69.

ß الحديث 3 - يدَّعي هذا الحديث الضعيف أن الإمام الصادق (ع) قال: إن المقصود من المستخلفين في الأرض المذكورين  في الآية 55 من سورة النور هم الأئمَّة!

فأقول إن الآية المذكورة هي التالية: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور/55].

ونقول:  أولاً: تتضمن الآية كلمة «مِنْكُمْ» التي تدلُّ على أن المُخاطَب بها هم المؤمنون المعاصرون للنبي الأكرم J.

ثانياً: لا تعني كلمة «الأَرْضِ» كلَّ الكرة الأرضية، بل تدلُّ ألف ولام التعريف فيها على أنها أرضٌ معيَّنةٌ معهودةٌ كان يعيش فيها معاصرو النبي J وأتباعه، أي أرض الجزيرة العربية وما حولها. كما قال القرآن مخاطباً النبيّ: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ [الإسراء/76]، إذْ من البديهي أن ليس المقصود أنهم كادوا أن يخرجوك من الكرة الأرضية! بل المقصود أن يخرجوك من موطنك في الجزيرة العربية. وقال القرآن كذلك: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص/26]، ومن البديهي أن حضرة داود (ع) لم  يشمل مُلكُهُ كلَّ الكرة الأرضية بل حَكَم قطعةً محدودةً من الأرض.

كتب الشيخ الطَّبَرْسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» يقول:

"«لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي ليجعلنَّهم يخلفون مَنْ قبلَهم. والمعنى ليورثَنَّهم أرضَ الكافر من العرب والعجم فيجعلَهم سُكَّانَها ومُلوكَها «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قال مقاتل: يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم".

ثالثاً: أكد الله تعالى الذي لا يُخلف الميعاد، بأساليب التأكيد المضاعفة في كلمة «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» (لام التأكيد التي دخلت على الفعل، ونون التأكيد الثقيلة في آخر الفعل) أنه كما استخلف الماضين (مثل داود وسليمان و...) أي منحهم السلطانَ وَالتمكينَ في الأرضِ، سيستخلِف المسلمين المعاصرين للنبيَّ J فيمكِّنَهم من الحكم والخلافة في الأرض، وقال بأسلوب التأكيد المضاعف مرَّةً ثانيةً «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ» أي وَعَدَهُمْ بأنه سيبدِّل ما كانوا فيه من خوف وعدم أمان، إلى أمن وأمان واطمئنان.  هذا مع أنه - باستثناء فترة حكم علي بن أبي طالب ومدة قصيرة من حكم ابنه الحسن عليهما السلام -  لم يصل أيٌّ من الأئِمَّة إلى سُدَّة الحكم والخلافة، ولم يتمتَّعوا بالأمن واطمئنان البال، بل عاشوا - كما تقولون - أغلب حياتهم تحت الملاحقة والمراقبة، وكانوا محرومون من حرية التحرُّك والعمل.  إذن لا يمكن القول إنَّ المقصودين من هذه الآية الأئمَّةُ الاثنا عشر.

ولا يخفى أن بعضهم لما واجه هذه الإشكالات قال إن المقصود من الآية حكومة المهدي! هذا في حين أن ضمير «هُمْ» في كلمات «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» و«لَيُبَدِّلَنَّهُمْ» يدل على الجمع، والإمام الثاني عشر شخص واحد فرد. وإن قيل: المقصود حضرة عليٍّ والمهديُّ، قلنا إذن كان من اللازم استخدام ضمير التثنية «هُمَا» بدلاً من ضمير «هُمْ» لأن الأخير يدل على أكثر من اثنين.

والأهم من ذلك أن مثل هؤلاء المدَّعين يتجاهلون عمداً كلمة «مِنْكُم» الموجَّهة إلى المؤمنين المعاصرين للنبي J، لأنهم يعلمون أن «المهدي» ليس معاصراً للنبي J، ولم يكن قد وُلِد بَعْدُ زَمَنَ نُزُول الآية!

رابعاً: لما شاور «عُمَرُ» في أيام خلافته علياً (ع) في خروجه - أي خروج عمر - قائداً للجيش إلى حرب الفرس، أشار عليه عليٌّ (ع) كناصحٍ مخلِصٍ قائلاً: "فَكُنْ قُطْباً واسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ" وَطَمْأَنَه بالنصر وقال: "ونَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللهِ واللهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ ونَاصِرٌ جُنْدَهُ". (نهج البلاغة، الخطبة 146).

وقد ذكر «فيض الإسلام» - مترجم نهج البلاغة إلى الفارسية - في شرحه لهذه الخطبة، كما ذكر ذلك سائر شرّاح نهج البلاغة أيضاً، الآية 55 من سورة النور بوصفها مستند كلام أمير المؤمنين علي u.

إذن كما نلاحظ، بدلاً من أن يعتبر عليٌّ u نفسَه وأولادَه مصداقاً لآية الاستخلاف تلك، جعل - من خلال استخدامه لضمير «نحن» - نفسَه وعُمَرَ مشمولَيْن بآية الوعد الإلهي، في سورة النور، بالاستخلاف، خلافاً لما يقوله رواة الكُلَيْنِيّ، واعتبر جندَ الخليفة «جندَ الله» وأراد لِعُمَرَ كلَّ الخير.

بناء على ذلك يَتَبَـيَّنُ أن رواة الكُلَيْنِيّ كَذَبُوا على الإمام الصادق u إذْ مِنَ المقطوع به أن الإمام الصادق u لا يمكن أن يقول ما يخالف كلام جدّه.

ولا يخفى أن بعض المُتَكَسِّبِين من حانوت التفرقة المذهبية قال خداعاً للعوام: إذا اعتبرنا أن معاصري النبي J هم المخاطبون بآية الاستخلاف وهم مصداقها فعندئذ لابد أن نجعل معاوية وخلفاء بني أمية مشمولين بالآية أيضاً؟! فنذكِّر هذا المعترض قائلين: إن معاوية وأمثاله لم يكونوا بأي وجه من الوجوه مخاطَبين بضمير «مِنْكُم» المذكور في الآية، لأن سورة النور من السور المدنية التي نزلت قبل فتح مكة، وفي ذلك الوقت كان معاوية وأبوه لا يزالان على كفرهما ولم يكونا حتى في عداد المسلمين العاديين, فضلاً عن أن يُخاطَبوا بجملة: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ....... الآية».



([1])   بيَّـنَّا حال «مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ» في الصفحة 144، وحال «مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ» في الصفحة 310- 311، وحال «عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ» في الصفحة 327- 331.

([2])   انظر مثلاً: زيارة أمير المؤمنين (ع) في فروع الكافي، ج 4، ص 570.  أو زيارة العسكريين في بحار الأنوار،  ج 99، ص 67. (المُتَرْجِمُ)