170ز بَابٌ نَادِرٌ فِيهِ ذِكْرُ الْغَيْبِ

ذكر الكُلَيْنِيّ في هذا الباب أربعة أحاديث لا يوافق بعضها الآخر بل يتناقض معه!  اعتبر المَجْلِسِيّ الحديثَ الأولَ صحيحاً والحديثين 2 و3 مجهولين والحديث الرابع مُوَثَّقَاً، مع أن الراوي الأول للحديث الرابع هو «عَمَّارُ بنُ موسى السَّابَاطِيُّ المدائنيُّ»، الذي قال الشيخ الطوسي عنه: "عَمَّارٌ السَّابَاطِيُّ ضَعِيفٌ فَاسِدُ الْمَذْهَبِ لَا يُعْمَلُ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِرِوَايَتِه"([1]).  وقال الأستاذ البِهْبُودِيّ عنه إنه لا يروي الأحاديث بأمانة([2]) (معرفة الحديث، ص 180).‏

هذا ولم يُصحِّح الأستاذ البِهْبُودِيّ أيّاً من أحاديث هذا الباب.

ولقد تكلمنا حول موضوع العلم بالغيب في هذا الكتاب مستدلين بآيات القرآن (انظر الصفحات 125فما بعد من الكتاب)، ويبدو أن رواة هذا الباب عندهم عداوة مع القرآن وتجاهلوا تماماً أن الله تعالى قال لنبيه J بصراحة: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام/50]. قال: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِـلَّهِ﴾ [يونس/20]. وقال: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل/65].

وقد استُخْدِمت كلمة «الغيب» في القرآن الكريم بمعاني متنوعة منها استخدامها بمعنى «الوحي»، كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا 27 لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن/26 - 28]. وقوله سبحانه: ﴿مَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [التكوير/24].

ومن الواضح تماماً أن الرسالات التي أُمِر الأنبياءُ بتبليغها والغيبَ الذي لم يبخلوا به وأوصلوه إلى جميع الناس لم يكن سوى الوحي الإلهي وتعاليم الشريعة. ثم إنه بناء على تلك الآيات فإن عدم إظهار أحد على الغيب لا استثناء فيه إلا للرسل، أما غير الرسل فلا نصيب لهم في علم الغيب. ويمكننا أن نفهم من تلك الآية أن الله تعالى يختار في بعض الحالات -بمقتضى حكمته- رسولاً يطلعه على الأخبار الغيبية. كما قال تعالى بعد أن قصَّ علينا قصَّة حضرة نوح (ع): ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [هود/49].

وقد أبلغ الرسول الذي اصطفاه الله تلك الأخبار الغيبية إلى أمته، وكما كان هو مؤمناً بتلك الأخبار كان أصحابه وأتباعه الصادقون مؤمنين بها أيضاً. يقول القرآن عن النبي والمؤمنين: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة/285]. بناءً على ذلك لا يمكن لأحد أن يعلم بذلك الغيب ويوصله إلى الآخرين إلا رسول الله J. وبعبارة أخرى إن ادعاء العلم بالغيب مساوٍ لادعاء الرسالة والنبوة! كما أن الغيب الذي أَطْلَعَ اللهُ نبيَّه عليه، ثم لم يخبر النبيُّ أحداً به إلا ابن عمه وأولاد ابن عمه، لا ذكر لمثله في القرآن وليس عليه أي دليل سوى ادعاء مجموعة من المجاهيل والرواة الكذّابين فاسدي المذهب الذين يخدعون العوام!

الحديث الثالث في هذا الباب من الأحاديث المتعارضة الأجزاء، وقد تكلَّمنا سابقاً وباختصار عن هذا النمط من الأحاديث([3]). يقول الإمام بصراحةٍ في صدر هذا الحديث، وهو غاضبٌ ومنزعجٌ: "يَا عَجَباً لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ! مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَقَدْ هَمَمْتُ بِضَرْبِ جَارِيَتِي فُلَانَةَ فَهَرَبَتْ مِنِّي فَمَا عَلِمْتُ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ هِيَ!".

كما تلاحظون لا توافق بداية الحديث هذه أهواء رواة الكُلَيْنِيّ. لذا سنقرأ في بقية الحديث أموراً لا تتفق مع القرآن. في الجزء الثاني من هذا الحديث يقول الإمام ما معناه أن الذي أتى بعرش بلقيس إلى قصر سليمان كان عنده جزء من علم الكتاب ولكن وَاللهِ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ عِنْدَنَا! واستند الإمام إلى الآية 43 من سورة الرعد.

يقول كاتب هذه السطور إن الإمام عالم بشكل كامل بالقرآن الكريم وصدور مثل هذا الكلام عن الإمام مُحال قطعاً. وقد تكلَّمنا عن هذا الأمر من قبل([4]). وهنا نقول باختصار إن المقصود من ﴿مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد/43] هم أمثال الذين أشير إليهم في الآيات 83 حتى 85 من سورة المائدة وفي الآية 43 من سورة الرعد، وهذا كما قلنا لا علاقة له بعلمهم بالغيب أو بامتلاكهم ولاية تكوينية. هل من الممكن أن يكون الإمام الصادق u جاهلاً بآيات القرآن ويقول -كما يقول الغلاة الجاهلون - إن الله تعالى قال للكفار الذين كانوا ينكرون نبوة محمَّد J: اسألوا الطفل الذي في منزله، أو يقول في الردِّ على الكفار أن الطفل الذي في بيت النبيِّ لديه ولاية تكوينية.

في نظرنا إن الكُلَيْنِيّ ورواته سيُسألون يوم القيامة عن كل هذا التلاعب بمعاني آيات القرآن وعن كل هذه الافتراءات التي افْتَرَوْها على الأئِمَّة الكرام.

في زماننا قام عددٌ من مُدَّعي العلم بتأليف عدّة كتب تقليداً للكُلَيْنِيّ، واستندوا إلى هذه الأحاديث وأمثالها دون تأمّل ليستنتجوا أنّ علياً (ع) وأولاده لديهم ولاية تكوينية!!([5]) هذا في حين أنهم لو كانوا صادقين في ادّعائهم محبّة الأئمَّة لكان عليهم على الأقل أن يكّذبوا أمثال تلك الأحاديث وأن يجتنبوا الافتراء على الأئمَّة اتّباعاً لأمر حضرة الرضا (ع) الذي قال: "إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتُها".

في رأينا لما رأى أعداء الإسلام أن كلام الإمام لا يتّفق مع أهوائهم أضافوا إليه ذيل هذا الحديث حتى إذا ما نقل أفراد آخرون صادقون ممن كانوا في مجلس الإمام (ع) كلامَ الإمام - الذي نقرؤه في صدر الحديث - في مكان ما، استطاع أعداء الإسلام هؤلاء أن يوهموا الناس من خلال بقية الحديث التي قاموا بوضعها أنّ أولئك الرواة الصادقون بَتَروا الحديث ولم يرووه بشكل كامل، أما هم فنقلوا المتن الكامل للحديث! وكان هدفهم أن يُظهروا الإمام كشخص ذي وجهين من جهة، ومن الجهة الأخرى أن يُبْطلوا تصريح الإمام في صدر الحديث بأنّه لا يعلم الغيب!

ولكن بغض النظر عن الانتقادات الواردة على الجزء الثاني من الحديث والتي أشرنا إليها باختصار فإن صدر الحديث ينفي ذيله تماماً، لأنه لو كان العمل الذي نقرؤه في صدر الحديث غير موافق لعقيدة الإمام فإنّه من المستحيل حتى على فرد قليل العقل أن يصدره منه مثل ذلك العمل فما بالك بإمام المتّقين وعالِمِ أهل البيت الإمام الصادق u؟!

يقول الحديث إن الإمام جاء من خارج المنزل، يعني أن الإمام قدم إلى منزله ولم يكن موجوداً أمام الخليفة أو أمام مأموري الحكومة حتى نقول إنه كان مجبَراً على قول شيء مخالف لعقيدته. إذن، كان الإمام قادراً على الصمت وأن لا يقول شيئاً أصلاً وأن يسلّم على الحاضرين في المجلس ويقول كلاماً آخر، ولم يكن الإمام الذي يُقال إنّه عالم بالغيب وبما كان وما يكون، بحاجة إلى قول شيء مخالف للواقع، أو أن يقول ابتداءً من عنده ودون أن يُسأَل، وبحالة من الغضب والتعجّب ممن يعتبرونه عالماً بالغيب: "يَا عَجَباً لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ! مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ"، بل حتى أنّه ذَكَر نموذجاً على عدم معرفته بالغيب؟!!

والحديث الرابع في هذا الباب أكثر تناسباً مع عنوان الباب الذي بعده، لذا سنتكلم عليه عند تعليقنا على أحاديث الباب 104 التالي.



([1])   الشيخ الطوسي، «الاستبصار»، ج 1، ص 372. (المُتَرْجِمُ)

([2])   ونصُّ عبارة الأستاذ البِهْبُودِيّ: " أقول: قد سبرتُ أحاديثه فوجدته يروي الحديث الصحيح على الوجه الذي كان يفتهمه، لا على الوجه الذي سمعه أو وجده في أصول الأصحاب، ولذلك تجنَّبْتُهُ". (معرفة الحديث، ص 180). (المُتَرْجِمُ)

([3])   راجعو الصفحة 691 فما بعد في هذا الكتاب.

([4])   راجعو الصفحة 139 فما بعد، والصفحة 683 فما بعد من هذا الكتاب.

([5])   وذلك مثل كتاب «أمراء هستى» [أمراء الكون]، تأليف سيد أبو الفضل النبوي القمّي ونظائره.