171. بَابُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ (ع) إِذَا شَاءُوا أَنْ يَعْلَمُوا عُلِّمُوا

في هذا الباب ثلاثة أحاديث لم يعتبر كلا المَجْلِسِيّ والبِهْبُودِيّ أياً منها صحيحاً، وقد ضعَّفَ المَجْلِسِيّ الحديث الأول، واعتبر الحديثين الثاني والثالث مجهولَيْن.

تدَّعي أحاديث هذا الباب والحديث الأخير من الباب السابق "إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَعْلَمَ عُلِّمَ!".

مثل هذه الأحاديث تخالف العقل وتعارض القرآن وسيرة النبيّ وحتى تتناقض مع أقوال الأئِمَّة، وكل مسلم يعلم قطعاً أن إرادة الله تعالى ومشيئته لا يمكن أن تكون تابعةً لإرادة مخلوقاته. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا([1]).

إن الأنبياء كانوا أحياناً يدْعُونَ اللهَ ويسألونه أمراً فلا يُستجاب لهم، إلا عندما يريد الله ذلك. فلمَّا سأل نوحٌ (ع) اللهَ نجَّاةَ ابنِهِ من الغرق لم يستجب الله تعالى له. وقال تعالى لخاتم أنبيائه: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص/56]، وقال كذلك: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾  [الإنسان/30]، وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير/29]. ومعنى الآيتين الأخيرتين أن مشيئتَكم موقوفةٌ على مشيئة الله، وعليكم أن تطلبوا منه التوفيق للهداية، ونحن الذين أردنا مشيئتكم وحرية اختياركم، ولو لم نُرِد أن نعطيكم حرية الاختيار لَـحُلْنا بينكم وبين مشيئتكم، ولما كان لمشيئتكم أي تأثير.

وقال الإمام الرضا u مخاطباً ربه تبارك وتعالى: "مَا شَاءَ اللهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، مَا شَاءَ اللهُ لَا مَا شَاءَ النَّاسُ، مَا شَاءَ اللهُ وَإِنْ كَرِهَ النَّاس‏ُ"([2]).  وقال الإمام الصادقu: "الْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ غَيْرُه‏"([3]).

وأحاديث هذا الباب تخالف كلامَ الإمام عليٍّ u أيضاً. فالكُلَيْنِيّ نفسه  روى أن عليّاً (ع) قال: "كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ [أي ميعاد موتي وكيفيته] فَأَبَى اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ إِلَّا إِخْفَاءَه"([4]).

لاحظوا أن الإمام أراد أنْ يَعلمَ شيئاً لكنه لم يُعَلَّمْهُ (في تناقض صارخ مع روايات هذا الباب). 

كما لا تتَّفِق أمثال هذه الروايات مع سيرة النبي J. فقد قال كثير من المفسِّرين - ومن جملتهم الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان»- في شأن نزول سورة «الكهف» و«الضحى»: إن الوحي انقطع مدةً عن رسول الله J، ورغم شدة اشتياق النبي J إلى نزول الوحي ورغبته بذلك ورغم أن انقطاع الوحي عنه كان ثقيلاً عليه جداً، إلا أنّ الوحي لم ينزل إلا عندما أراد الله ذلك. إذاً، نزول الوحي لا يتعلّق بأي وجه من الوجوه بإرادة النبي J.

كذلك في واقعة الإفك بحق «عائشة»، رغم أن النبي كان يرغب بشدة في معرفة حقيقة ما حدث، لم يأتِه الوحي مدةً من الزمن ثمَّ أتاه الوحيُ عندما أراد الله ذلك. حقاً لو كان حصول العلم يعتمد على إرادة الأنبياء فإنّ حضرة يعقوب u كان يريد قطعاً معرفة مكان أعزّ أبنائه عليه. ولا شك أنّ النبيّ الأكرم J كان يريد أن يعلم هل الذين جاؤوا يعتذرون عن المشاركة في الجهاد صادقون أم كاذبون؟ وكان يستطيع قطعاً أن يستفيد من علمه كي لا يُعاتبه الله على إذْنِه لهم بعدم الخروج معه (سورة التوبة/43). وكان عليٌّ (ع) يريد قطعاً - لأجل منع وقوع مصر بيد معاوية - أن يعلم هل إرسال مالك الأشتر إلى مصر مفيد أم لا؟ ولا شك أنّه كان يريد أن يعلم هل العمّال الذين يؤمّرهم على الأمصار (من قبيل المنذر بن الجارود وغيره ....) خادمون مخلصون أم خائنون. ولو كان في إمكانه أن يعلم لاستفاد قطعاً من علمه هذا ولما قام بتعيين الولاة (الذين ظهرت خيانتهم فيما بعد) كي لا يُصاب بيت مال المسلمين بالضرر. وكان الإمام الصادق u يريد أن يعلم هل يموت ابنه إسماعيل قبله أم بعده؟ ولو علم بموته قبله لما أوصى له بالإمامة في بداية الأمر، ولما نشأت فرقة الإسماعيلية أصلاً، ولمنع بهذا ضلال جماعة كبيرة من الناس. كذلك ما كان موسى بن جعفر (ع) ليعيّن جماعة من الخائنين قائمين على أمره ووكلاء له، وهكذا.... .

لدينا أمثلة كثيرة جداً في هذا الموضوع، وقد ذكر أخونا الفاضل المرحوم قلمداران أموراً مفيدة في كتابه الشريف «راه نجات از شر غلات» (بخش علم غيب) [أي: طريق النجاة من شر الغلاة، قسم العلم بالغيب]، ومن المفيد جداً مطالعتها.



([1])   الجملة نهاية الآية 43 من سورة الإسراء. (المُتَرْجِمُ)

([2])   مفاتيح الجنان، في فضيلة بعض أدعية صلاة الصبح.   أقول (المُتَرْجِمُ): والدعاء جزء من حديث رواه الكُلَيْنِيّ في أصول الكافي، ج 2، ص547 - 548 .

([3])   مفاتيح الجنان، في سجود الشكر وأدعية طلوع الشمس.  أقول (المُتَرْجِمُ): والدعاء جزء من حديث رواه الكُلَيْنِيّ في أصول الكافي، ج 2، ص 259.

([4])   أصول الكافي، ج 1، ص 299، (الباب 123، الحديث 6).  ونهج البلاغة، الخطبة 149.